ما رأيك فى ظهور «البلاك بلوك» فى وسائل الإعلام؟ هل من اللائق أن تتم استضافة هؤلاء «المخربين» فى الصحف والقنوات الفضائية؟ ألا يعد ذلك تحريضاً على العنف وترويجاً له؟ هل تسمح الدول المتقدمة بمثل هذه «المهازل» فى وسائل إعلامها؟ تلك بعض الأسئلة التى تلقيتها من زملاء يعملون فى وسائل إعلام مؤيدة أو تابعة للإسلام السياسى بفصائله المختلفة، على مدى الأيام الثلاثة الماضية. وفى المقابل، فقد تلقيت مجموعة من الأسئلة الخاصة بالأمر ذاته من عدد من الزملاء الذين يعملون فى وسائل إعلام تمثل المعارضة المدنية أو تتحدث باسمها. لكن الأسئلة تلك المرة كانت مصاغة بطريقة مختلفة، على النحو التالى: لماذا يريدون منع «البلاك بلوك» من الظهور فى وقت يسمحون فيه بظهور «حازمون»؟ أليس ل«الإخوان» ميليشيات أيضاً؟ هل يمكن تجاهل «بلاك بلوك» لأن ما يفعله لا يعجب الإسلاميين؟ أليس بلاغ مجلس الشورى ضد إحدى القنوات التى استضافت «البلاك بلوك» عدواناً جديداً على حرية الإعلام؟ لعلك لاحظت أن الأسئلة فى مجملها تدور حول موضوع واحد، لكنها تتخذ شكلين متعارضين تماماً. ولعلك لاحظت أيضاً أن الأسئلة، فى معظمها، تريد أن تقودك إلى إجابة محددة. إنها إذن محاولة لتسخير رأى فنى، بخصوص مسألة إعلامية حساسة ودقيقة، لمصلحة التوظيف السياسى، فى تلك المعركة التى أشعلناها جميعاً، بسبب رداءة إدارتنا لمرحلة الانتقال الديمقراطى، وهشاشة أوضاعنا الإعلامية، ومواقف الرئيس وتيارات الإسلام السياسى التى أججت نزعات الاستقطاب والصراع بالتصرفات الخاطئة والمعيبة. ليس من السهل الإجابة عن سؤال يخص ظهور «البلاك بلوك» فى وسائل الإعلام ب«يجوز» أو «لا يجوز»، وليس من السهل أيضاً أن يصبر عليك الزميل الصحفى، الذى سألك قبل قليل، حتى تعطيه الإجابة اللائقة؛ إذ إن ذلك سيعوقه عن إعداد الموضوع الذى تريد صحيفته أن تنشره سريعاً، ليساعدها فى «المعركة» التى تخوضها باستخدام الأدوات المتاحة لها من «تقارير وأخبار». السؤال عن ظهور «البلاك بلوك» فى الإعلام تم طرح مثيله على منظومات إعلامية عديدة فى العالم، عندما كان رئيس لحزب يمينى متطرف يدعو إلى طرد الأجانب، ويحرض على كراهيتهم فى فرنسا أو النمسا، وحينما كان متطرف إسلامى فى لندن يريد أن يظهر من خلال وسائل الإعلام، ليحرض على العنف ضد غير المسلمين، وعندما كانت شرائط تنظيم «القاعدة» تصل إلى «سى إن إن» أو «الجزيرة». لقد كانت الغرف التحريرية تخصص أوقاتاً طويلة لمناقشة «مدى أخلاقية» استضافة هؤلاء الضيوف أو عرض مثل تلك الشرائط، التى «تمجد العنف والكراهية» من منظور كثيرين. والواقع أن ثمة نتائج واضحة يمكن استخلاصها من أفضل المعايير التحريرية، التى وصلت إليها تلك المنظومات الإعلامية، بخصوص ظهور ممثلى جماعات تدعو إلى العنف أو الكراهية أو تتبناهما أو تمجدهما. ومن أهم تلك النتائج أنه لا يجب أن تخرق وسائل الإعلام أى قانون نافذ فى المجتمع، كما أنه لا يجوز لها أن تتجاهل أى قوى سياسية أو اجتماعية تمارس أدواراً تحظى بتأييد أو اهتمام لدى قطاعات من الجمهور، وتؤثر فى مسار الأحداث تأثيراً ملموساً. فإذا ظهرت جماعة تمارس أو تدعو أو تحرض أو تمجد سلوكاً يتسم بالعنف أو الكراهية ضد أى من طوائف المجتمع، وكانت محل اهتمام أو تأييد قطاعات من الجمهور، فعلى وسيلة الإعلام الرشيدة أن توازن بين دورها فى نقل ذرائع تلك الجماعة ووجهات نظرها للجمهور، لتحسن فهمه لمنطقها من جهة، وبين ضرورة ألا تتورط فى خرق قانون نافذ ومعيار إنسانى متفق عليه من جهة ثانية. وتفعيلاً لهذا التوازن، فسيتم إظهار ممثلى تلك الجماعة، ومناقشتهم، فى وسائل الإعلام الشعبية، لكن المذيع أو الصحفى سيكون مطالباً للمرة الأولى والأخيرة، بالتخلى عن الحياد، وتوضيح خطورة ما يفعله هؤلاء، والإشارة المتكررة إلى أنه ينطوى على خرق واضح للقانون، وذلك لحماية النشء والقاصرين وبعض قطاعات الجمهور غير المؤهلة تأهيلاً كاملاً. المهم أيضاً فى هذا الصدد أنه يجب التعاطى مع تلك الحالات من خلال اللجوء إلى أجهزة إعلامية مستقلة ذات تشكيل فنى متوازن، لتستطيع الموازنة فى حكمها على الأداء الإعلامى بين الاعتبارات التحريرية والقانونية، بدلاً من اللجوء إلى الإطار السياسى الذى ينظر للأمر من باب المصلحة فقط، أو الإطار القضائى الذى يقيم المسألة من زاوية القانون وحدها.