فى المشهد المسمى «سياسى» الآن، يوجد كل شىء إلا السياسة، يوجد نفعية واستغلال وبزنس دم، ولا مبالاة و«تناحة»، وغضب، وثورة، ومولوتوف، وخرطوش، وحظر تجوال، وقطع طرق وكبارى، وحرائق فى كل مكان، وكل شىء إلا السياسة التى لم يتفق الفرقاء إلا على الاستغناء عنها لصالح «العافية»، و«اللى يقدر على حاجة يعملها». السلطة الحاكمة مرت على مكتب استعلامات الرئاسة قبل دخول القصر وحصلت على «كتالوج» كيف تحكم مصر، فإذا بكل ما أقسم عليه مرسى يتبدد، فلا هو ولىّ الدم، ولا هو رئيس لكل المصريين، ولا هو رئيس أصلاً، ولا هو موجود وصاحب قرار وفعل حقيقى فى أحرج اللحظات التى تتطلب قرارا حاسما، وإنما هو النسخة الإخوانية من مبارك، فى عز الأزمة يغيب تماما عن المشهد «كبر مخك»، يسقط القتلى، وتحترق المنشآت، وتولع البلد باللى فيها وهو نائم دفيان بين أهله وعشيرته، ثم يتعطف ويخرج ليخطب فى الناس، فإذا بمبارك فرع المعاملات الإسلامية، يمدح القاتل ويفرض حظر التجوال على المقتول، ويعلن الطوارئ، ثم تغطيه أجهزة إعلامه على خطى إعلام مبارك «حذو النعل بالنعل»، فتصف المتظاهرين بأنهم قلة مندسة، ومخربون، ومتآمرون، ومتحرشون، ومغتصبون، ولم يبقَ إلا «تامر من غمرة». أما المعارضة «السياسية»، التى تضم مرشحى الرئاسة الذين قدموا أنفسهم للناس بوصفهم «ساسة»، الذين تذرع بعضهم حين سئل عن عدم حضوره للمظاهرات التى يدعو إليها بنفسه بأن دوره «السياسة»، هؤلاء أيضاً اختاروا منطق «العافية»، واحترفوا تجارة الدم، حتى إن أحدهم يبكى على الشاشات مَن قتله بنفسه وبتحالفاته القذرة، وبطموحه الذى يدفعه لأى شىء من أجل الوصول، هؤلاء رفضوا مجرد الجلوس للتحاور الذى هو جزء أصيل من مهنتهم، فى هذه اللحظات الحالكة، واختاروا نفاق الشباب الغاضب وتزييف المشهد ليبدوا أنهم رفضوا الحوار لأنهم يتحركون تحت إمرة الشباب وبتوجيهاتهم، وكأن الشباب هم من أشاروا عليهم بالتحالف مع قاتليهم، يزيد ينعى الحسين، ومعاوية يطلب ثأر عثمان! أما الثوار: فقد تخلوا عن السياسة بدورهم، تلك التى كانت تحكمهم بشتى فصائلهم حين اختاروا لثورتهم شعارات موحدة ذات طابع مدنى، وكان الإخوان أول من تخلى عن شعاراته الدينية لصالح سمعة الثورة، وحين اختاروا السلمية طلباً لتعاطف الناس ونزولهم، ووعيا منهم بأهمية مشاركة الجماهير لنجاح الثورة. فصيل من الثوار الآن يحملون السلاح، والخرطوش، والمولوتوف، ويقطعون الطرق والكبارى، ولا يجدون حلا آخر، لأن الحاكم بأمر الثورة خان ثورتهم، و«طرمخ» على دماء إخوانهم، وأبدى استعداده الكامل للبيع، وها هو يؤكد لهم كل يوم أنه صورة بالكربون ممن قتل محمد محروس والصاوى وبنونة وسالى زهران وبكير وبسيونى، وممن تابع، وقد منحوه الفرصة والثقة، فقتل مينا دانيال والشيخ عماد عفت وعلاء عبدالهادى، والآن إسلام وجيكا والحسينى أبوضيف ومئات من شهداء بورسعيد والسويس والإسماعيلية. هؤلاء ثوار وليسوا بلطجية، ثوار هتفوا يوما من أعماقهم للسلمية، فإذا بالسلمية تحصد أرواح رفاقهم واحداً تلو الآخر، حتى إذا انتظروا القصاص من ولىّ الأمر، خذلهم وضاعف أعداد شهدائهم، وتخلى عن مسئولياته وألقاها على معارضيه، ومارس صلفه وغروره، ونفاقه، وكذبه على الله وعلى الناس، دون ملل. مصر الآن على شفا جرف هارٍ، ولئن حمل فصيل من الثوار الآن السلاح ووقف آخر يبحث عن مخرج آمن لمصر وللثورة وللناس، فإن هؤلاء بدورهم على وشك التخلى عما بقى لهم من حكمة وعقل وتقدير للمسئولية، ذلك لأن المسئول الحقيقى لا يكتفى بالغياب واللامبالاة، وإنما يقف فى معسكر الخصم للثورة ورجالها وشهدائها، ثم ينتظر من الجميع الهدوء وضبط النفس