عزيزى القارئ.. إذا لم تكن قد عرفت شيئاً من سيرة القاضى إياس بن معاوية المزنى.. فارجو أن يتسع صدرك ووقتك قليلاً.. فقد فاتك الكثير حقاً..! إنه إياس بن معاوية بن قرة المزنى.. الشاب الذكى الذى زاده العلم فطنة وحنكة.. فقاد من حوله وبلغ صيته الآفاق وهو ما زال شاباً صغيراً.. حتى تقلد منصب قاضى القضاة فأصبح أشهر قضاة الدولة الأموية.. بل من أشهر قضاة الدولة الإسلامية كلها..! فيحكى «ابن كثير» أن عبدالملك بن مروان قد زار البصرة قبل أنْ يَلىَ الخلافة، فرأى إياسا وكان يومئذٍ فتى يافعاً، لم ينبت شاربُه بعد، ورأى خلفه أربعةً من القراء من ذوى اللحى بطيالستهم الخضر، وهو يتقدَّمهم، فقال عبدالملك: أُفٍّ لأصحاب هذه اللحى، أمَا فيهم شيخٌ يتقدَّمهم، فقدَّموا هذا الغلام، ثم التفت إلى إياس، وقال: يا غلام كم سنُّك؟ -أى ازدراءً له- فقال: أيها الأمير سنى أطال بقاءَ الأمير كسنِّ أسامة بن زيد حين ولاه رسولُ الله جيشاً فيهم أبوبكر وعمر، فقال له عبدالملك: تقدَّم يا فتى تقدَّم -أى علمُك قدَّمك- بارك الله فيك. لقد شاعت أخبارُ ذكاء إياس الصغير.. وصار الناسُ يأتونه من كل مكان، ويلقون بين يديه ما يعترضهم من مشكلات فى العلم والدين.. حتى تولى القضاء فى البصرة بأمر من خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبدالعزيز! يقول ابن كثير.. لما ولِىَ إياس القضاء جاءه رجلان يتقاضيان عنده، فادَّعى أحدُهما أنه أودع عند صاحبه مالاً، فلما طلبه منه جحده، فسأل إياسُ الرجلَ المدَّعَى عليه عن أمر الوديعة فأنكرها، وقال: إن كانت لصاحبى بيِّنة فليأتِ بها، وإلا فليس له علىَّ إلا اليمين، لا يوجد بيِّنة، فلما خاف إياسٌ أن يأكل الرجلُ المالَ بيمينه التفت إلى المودِع.. أى صاحب المال الأصلى، وقال له: فى أىِّ مكان أودعته المالَ؟ أى أعطيته، قال: فى مكان كذا، قال: وماذا يوجد فى ذلك المكان؟ قال: شجرة كبيرة جلسنا تحتها، وتناولنا الطعام معاً فى ظلِّها، ولما هممنا بالانصراف دفعتُ إليه المالَ، فقال له إياسٌ: انطلِق إلى المكان الذى فيه الشجرة فلعلَّك إذا أتيتها ذكَّرتك أين وضعت مالك، ونبَّهتْك إلى ما فعلته به، وأوهم المتهم أنه برىء فى نظره تماماً، فانطلق الرجل إلى المكان، وقال إياس للمدَّعى عليه: اجلس إلى أن يجىء صاحبُك، فجلس، ثم التفت إياس إلى من عنده من المتقاضين، وطفق يقضى بينهم، وهو يرقب الرجل بطرفٍ خفيٍّ، حتى إذا رآه قد سكن -ارتاحت نفسُه وكأنه صار بريئاً- واطمأن، التفت إليه وسأله على عجل: أتقدِّر أن صاحبك قد بلغ الموضع الذى أعطاك فيه المال؟ هل تقدِّر أنه وصل إليه؟ قال له: لا إنه بعيد من هنا، فقال له إياس: يا عدوَّ الله تجحد المالَ، وتعرف المكان الذى أخذته فيه. لقد تركه ينسى، وتركه يطمئن، ثم سأله فجأة حتى يخطئ.. وقد نجح فيما كان يبتغى. إنه الذكاء الذى امتزج بالعلم والدين ليخرج لنا منتجاً لم يتكرر كثيراً.. رحمك الله يا قاضى القضاة.. وللحديث بقية..