لم يمر على المسلمين الأوائل أيام أشد قسوة من عام الرمادة.. إنه ذلك العام الذى أتى بين أعوام حكم الفاروق عمر بن الخطاب رضى الله عنه.. يقول ابن كثير عنه «وفيه جدبت الأرض وبارت».. أى إنها اسودت وظهرت كأنها مغطاة بالرماد. كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه قد أنفق كل ما كان ببيت المال حتى نفد.. فجاع الناس وهلك منهم كثير.. ولأن المجاعات لا تنفصل عن الأوبئة.. فقد تزامنت هذه الشدة بظهور وباء شديد الخطورة وقتها كان يدعى «طاعون عاموس» الذى هلك فيه ما يقرب من 25 ألفاً من العامة.. يذكر ابن كثير فى كتابه البداية والنهاية كيف أن عمراً رضى الله عنه قد حرّم السمن على نفسه فى هذا العام حتى تزول الشدة.. وأخذ يأكل بالزيت حتى اسود وجهه ونحل.. ويحكى فى الأثر أن عمراً نظر ذات يوم فرأى بطيخة فى يد ولد من أولاده، فقال له على الفور: بخٍ بخٍ يا ابن أمير المؤمنين، تأكل الفاكهة وأمة محمد هَزْلى؟ فخرج الصبى هارباً يبكى، ولم يسكت عمر إلا بعد أن سأل عن ذلك وعلم أن ابنه اشتراها بكف من نوى. ويحكى أن عمر عس -أى نزل للمرور الليلى- فى المدينة ذات ليلة فى هذا العام فلم يجد أحداً يضحك، ولا يتحدث الناس فى منازلهم على غير العادة، ولم يجد سائلاً يسأل، والملاحظة الأخيرة تحديداً هى الأغرب.. ففى عام جدب كهذا العام كان طبيعياً أن تجد المتسولين يملأون الطرقات.. وتجد التذمر والشكوى فى أقصى درجاتها.. بل إنه فى عهد حاكم آخر خلاف عمر.. كان من الطبيعى أن تجد محاولات للخروج على الحاكم.. فثورة الجوع لا تعرف زمناً ولا تلتزم بقاعدة!! فما كان من عمر إلا أن سأل: ما بال الناس لا يسألون وهم جياع؟! فقيل له: يا أمير المؤمنين، إن السؤّال سألوا فلم يُعطوا فقطعوا السؤال، والناس فى هم وضيق، فهم لا يتحدثون ولا يضحكون.. فبكى عمر فى ليلته هذه كما لم يبك من قبل. الطريف أن الناس كانوا فى ضيق شديد بالفعل.. لكنهم صبروا واحتسبوا.. ولم يلم أحد الحاكم بسوء التصرف.. بل لم تحدث حالة واحدة للخروج عن الحاكم.. فقط توقفوا عن السؤال فى انتظار الفرج من الله. الأمر لا يرجع إلى إخلاص الرعية لحاكمهم فحسب.. وإنما لأنهم وجدوا أن الحاكم يشاركهم تلك الظروف العصيبة.. فما للشعب أن يخرج على حاكم يجوع مثلهم.. ويلبس مما يلبسون.. والحاكم فى نفس الوقت لم يدخر على نفسه جهداً.. فحرّم على نفسه أن يأكل قبل أن يأكل الناس.. فكان هذا هو دفاعه أمام رعيته.. فهكذا كانوا.. رعية وحكاماً!! وللحديث بقية إن شاء الله!