لا أظن أن مؤرخاً مصرياً اعتنى بالغوص فى أعماق الشخصية المصرية، وتحليل مكوناتها، وعوامل تصنيعها، ومعرفة منظومة الأسباب والعوامل الاجتماعية وطرق المعيشة والتعليم التى حافظت عبر التاريخ على إنتاج تلك الشخصية وتصنيعها، مع الاستدامة فى نقل مكونات هذه الشخصية المصرية من جيل إلى جيل كما فعل مؤرخنا الكبير محمد شفيق غربال، أستاذ التاريخ بكلية الآداب بجامعة القاهرة، فكان أول مصرى يتولى منصب «الأستاذية» بالجامعة، ومؤسس الجمعية التاريخية المصرية، وعضو المجمع العلمى المصرى، وعضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وواحد من اثنى عشر مؤرخاً تم اختيارهم سنة 1370ه الموافق سنة 1951م لعضوية لجنة من أبرز مؤرخى العالم ليكونوا مستشارين لليونيسكو فى شئون تاريخ العالم، مع عضوية عدد من الجمعيات والهيئات البحثية، منها: الجمعية الجغرافية، وجمعية الاقتصاد والتشريع، وجمعية الآثار القبطية، والمجلس الأعلى للآثار، ولجنة التاريخ والآثار، ثم لجنة الترجمة بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، وقبل كل ذلك فهو أستاذ مصرى نجيب، عنده وعى رفيع بمعنى كلمة مصر، وعشق عميق لهذا الوطن، وبصيرة نافذة بمجموعة عوامل تكوينه، وصناعة عقله ووجدانه وذوقه وشخصيته، وكان من فرائده البحثية فى كتابه: (تكوين مصر) أن توصل بتحليل علمى رصين إلى أن المقولة التاريخية الذائعة: (مصر هبة النيل) ليست دقيقة، ولا تكشف عن فهم يطابق الواقع المصرى العميق، بل الصواب أن نقول: «مصر هبة المصريين»؛ لأنهم هم الذين حولوا ماء النيل إلى زراعة وخير ونماء ومعرفة وفكر، وعلوم هندسية ورياضية متقدمة وسابقة، أثمرت المبانى والحصون والقلاع والمعابد، فضلاً عن الهرم الأكبر، الذى هو قمة السبق المصرى فى العلوم الرياضية والنسب الهندسية، مع الإرادة والتصميم والقدرة على الإنجاز، مع بقية نواحى الشخصية المصرية الغريبة المدهشة، التى أثمرت المدارس العلمية، والعقول العبقرية، وأثمرت جيش مصر العظيم، خير أجناد الأرض، وأثمرت الأزهر الشريف بكل جلاله وعراقته وأثره الحميد فى العالم، وأثمرت دور العلم والحكمة، ومكتبة الإسكندرية العريقة، إلى غير ذلك من وجوه الإنجاز عند الإنسان المصرى، مما يشهد بأن هذا الإنسان بطريقة تكوينه، وهمته، وتألق عقله، هو الذى صنع كياناً عظيماً اسمه مصر، بعد أن جادت هى على هذا الإنسان بموقعها الجاذب للشخصيات والعقول من مختلف أنحاء العالم، من طلاب العلم والحكمة فى الزمن القديم، إلى الحجاج العابرين على أرضها، إلى طلاب أزهرها الشريف، إلى غير ذلك من صور العطاء المتبادل، الحافل فى سائر منعطفاته بالارتباط بالسماء، واليقين فى الغيب، وممارسة التدين بما يصنع الحضارة، والحقيقة أن التطواف والرحيل فى تراث شفيق غربال وثمرات فكره يمثل رحلة إلى أعماق وجدان مصر، ويفتح نافذة لمشاهدة تروس الشخصية المصرية وهى تعمل وتبنى وترمم وتحافظ على مكوناتها، كنت أعكف على مطالعة بحوث شفيق غربال فى تاريخ مصر الحديث، مستمتعاً بهذا العقل الحصيف، والمقدرة البحثية الحافلة بالصبر والتنقيب والتأمل والمطالعة والمقارنة والاستنتاج، مع معرفة قيمة مصر وعمقها وثراء تكوينها، والحقيقة أننى تعلمت كثيراً من هذه الشخصية العظيمة، وتمنيت كثيراً لو أننى أدركته وجالسته وباحثته فى قضايا كثيرة، مستفيداً من خبرته الواسعة، وعلمه الدقيق، وإلمامه المثير للإعجاب بمكونات العقل المصرى والوجدان المصرى، وقد كان رائد مدرسة تاريخية، صنعت عدداً من العقول الكبيرة، التى تتلمذت له، وتعلمت منه منهج البحث، وتبلورت ملكاتهم على يديه، منهم أحمد عزت عبدالكريم، وهو أكبر تلامذة شفيق غربال وأكثرهم شهرة، وأشبههم به، صاحب كتاب (تاريخ التعليم فى مصر)، وعبدالعزيز الشناوى، مؤسس مدرسة التاريخ الحديث بجامعة الأزهر، ومحمد رفعت رمضان، وأحمد أحمد حتة، الذى شغف بتاريخ الفلاح المصرى، وغيرهم كثير من نوابغ المؤرخين، وكانوا جميعاً يجتمعون به فى مجلسه العلمى الذى كان يعقده كل أسبوع لمتابعة أعمال تلاميذه، فكان يوجههم إلى آفاق معرفية واسعة، ويسألهم عما يقرأون، ويراقب نموهم وتطورهم المعرفى، والحقيقة أن شخصية محمد شفيق غربال كانت شخصية فريدة، موفقة، فكان فى شخصه الكريم، وفى طريقة تفكيره، وفى كتابة بحوثه، وفى تربيته لجيل تلامذته، محلقاً، متألقاً، يترك من بعده الأثر الرفيع، الذى ينور العقول، ويقدم الحقائق.