مخيفة تلك القصة غير المؤكدة التى ترجع ظهور كرة القدم إلى قيام الجيوش الآسيوية المنتصرة بتناقل رؤوس قادة أعدائهم بالأقدام، كمظهر من مظاهر الاحتفال الهمجى البشع! فى فترات توقف الحروب المعروفة بالهدنة حاولوا تقليد الرأس البشرى بصناعة جسم مكور من جلد الحيوانات، طوَّر الإنجليز اللعبة، ووضعوا لها القواعد التى حولتها إلى الرياضة الشعبية الأولى فى العالم. سرعان ما تخلصت كرة القدم من تاريخها الدموى، وأصبحت رمزاً للمهارات الفائقة والاستمتاع البالغ للجماهير التى حملت نجومها على الرؤوس عند النصر، بدلاً من قطع رؤوس المهزومين. ظهرت السينما، ومن بعدها التليفزيون، ودخلت كرة القدم البيوت، وأصبحت متابعتها حية أو مسجلة مطلباً شعبيًّا، وصارت حقًّا لا يجرؤ أحد على مصادرته.. جماهيرية طاغية أدت إلى ظهور العديد من المسابقات المهمة والأندية الغنية والاستادات الباهرة؛ تنافست الأمم على استضافة مسابقتها الكبرى التى تقام كل أربع سنوات والمعروفة بكأس العالم. كل شىء يبدو براقاً ورائعاً، إلا عندما يقع حادث هنا أو هناك.. عُرفت الحوادث باسم شغب الملاعب، وقد كانت هذه -فى تقديرى- هى الغلطة الكبرى التى أدت إلى ما أعاد لكرة القدم دمويتها التاريخية.. الجرائم والاعتداءات تحولت فى قاموس الملاعب إلى «شغب» لا ينشغل به إلا مسئولو الأمن وحفظ النظام. قبِلنا السباب والشتائم والعدوان الصارخ على اللاعبين والمدربين، وقبلهم جميعاً قضاة الملاعب «الحكام»! لم نكترث، وقال السفهاء منا: يحدث فى كل أنحاء العالم، بل نحن حالنا أفضل، فهناك فى أوروبا يحطمون البارات ومحطات القطار بعد المباريات فرحاً أو حزناً.. أما فى أمريكا اللاتينية، فإنهم يغتالون اللاعبين، ويتقاتلون أحياناً حتى يسقط الضحايا صرعى ومصابين. قالوا: هذه هى كرة القدم بحرفنة لاعبيها وشغب جماهيرها، إنها التوليفة السحرية التى زادتها جماهيرية. أما شعار «اصنع من الحبة قبة»، الذى اختاره الإعلام الرياضى، فقد كان له دور، لا ينكره أكثر المدافعين عنه، فى إشعال الفتن وتعميق الأزمات.. فعلوا ذلك بحسن نية وسوء تقدير للتنافس على جذب القارئ أو المشاهد؛ سخروا مواهبهم لابتكار تعبيرات نارية مثل «فريق الأرض سحق فريق البحر، وفريق البحر يطيح بفريق الأرض.. وفريق الأرض ينتقم لشرفه، وفريق البحر يغرق فريق الأرض فى الوحل»، ويزفون المهزوم برباعية: «يا حلوة يا بلحة يا مأمعة.. شرفتى اخواتك الاربعة».. انزلقوا وانزلقنا وراءهم، فظهر السباب الجماعى، وتحول إلى ألحانٍ وأغانٍ، وتعودنا على القبح اللفظى، وتطور الأمر إلى إلقاء الزجاجات الفارغة، فالممتلئة، وبعدها ظهر الطوب، وخلع المقاعد، حتى وصلنا إلى عصر إشعال قراطيس الجرائد الذى مهد الطريق للألعاب النارية والشماريخ التى دخلت من باب التطور الطبيعى للقرطاس. كفانا استهتاراً بكرامة الناس، ولندرك أن سفك الدماء يبدأ بالاستهانة بالألفاظ النابية، تُلقى بغير حساب! لا معنى لاستئناف النشاط الكروى قبل تجهيز الملاعب بمقاعد مرقمة تسمح بالتعرف على من جلس فيها من الجمهور الذى يشترى التذكرة بتحقيق شخصية.. هذا مع تزويد جميع القطاعات بكاميرات مراقبة عالية الجودة؛ حينها سيمكننا الاستغناء تماماً عن الأسوار وعن فرق الحراسة كثيفة العدد عالية التدريب. فى أوروبا منعوا الخمور من محيط الملاعب حتى يقللوا الميل للجريمة، فتراجعت معدلات جرائمهم، وزادت جرائمنا ربما بسبب المخدرات، التى أقترح إجراء فحوص عشوائية لاكتشاف متعاطيها وتقليل المقبلين عليها قبل المباريات. الجدية مطلوبة حتى يصبح الذهاب لمباراة كرة قدم ترفيهاً عائليًّا مملوءاً بالبهجة والسعادة والتحفيز على ممارسة الرياضة.