«لا شك أن الشباب الذين قاموا بالثورة يعانون حالة يأس وإحباط وقلة حيلة، ربما أكثر من قبل الثورة لأن حلم الديمقراطية والعدالة تحوّل إلى كابوس مؤلم، وهذا هو حال مصير اليوم للأسف». بهذا عبّر الكاتب البريطانى جون برادلى عن حالة الثورة المصرية بعد عامين من اختطافها على يد جماعة الإخوان المسلمين، تلك الجماعة التى قفزت على الثورة ووظّفتها لحسابها وانفردت بها وحدها بعد أن أقصت جميع القوى الشبابية والثورية والسياسية التى شاركت فى انطلاقتها ونجاحها فى الإطاحة بنظام الرئيس السابق حسنى مبارك. والمثير فى الأمر أن جماعة الإخوان التى لم تشارك بفاعلية فى ثورة الخامس والعشرين من يناير عشية تفجُّرها والتحقت بها بالتبعية عشية جمعة الغضب فى الثامن والعشرين من يناير لعام 2011 باتت تتحدث عن الثورة وكأنها صاحبة الحق الوحيد فى احتكارها والتحدث باسمها وحصد نتائجها وقطف ثمارها! هذا الاحتكار لنتائج الثورة تم عبر ما يمكن وصفه باستراتيجية الخداع التدريجى، التى لعبت فيها جماعة الإخوان دوراً أشبه ما يكون بلعبة الخلايا السرية التى تستخدم جميع الأدوات لبلوغ أهدافها. ففى الوقت الذى كانت الغلبة فيه لشباب الثورة، سواء فى الميدان أو خارجه، وكان ميزانهم الجماهيرى فى قمته فى الشارع السياسى، جاء موقف جماعة الإخوان مخادعاً، إذ انكب مرشدهم العام وقيادات الجماعة فى إطلاق سلسلة من التصريحات والمواقف التى سرعان ما راحت تتبدل ما بين الفينة والأخرى. ولعل التصريح الذى أدلى به د. عصام العريان عضو مكتب إرشاد الجماعة، فى وقت مبكر بعد الثورة يكشف هذا الخداع، إذ جاء تصريحه الذى احتل عناوين رئيسية لصحيفة «أخبار اليوم» ليقول إن الإخوان غير طامعين فى الرئاسة ولا الحكومة، وقال: سوف نخوض الانتخابات البرلمانية المقبلة بعدد لا يسمح لنا بتحقيق الأغلبية. ولأن الجماعة أثبتت خلال ممارساتها فى الفترة ما بعد الثورة أنها أبعد ما تكون عن الوفاء بتعهداتها، فقد مارست نقيض كل تعهداتها ورشّحت المهندس خيرت الشاطر على الرئاسة قبل أن تستبدل به الدكتور محمد مرسى لأسباب قانونية، وسبق ذلك خوضها الانتخابات البرلمانية على غالبية مقاعد الشعب والشورى لتحصد النسبة الكبرى من المقاعد وتعمل على تكريس سيطرتها على البرلمان بغرفتيه. وبذات القدر من المناورة، الذى استخدمته لحصد أغلبية البرلمان والوصول إلى مقعد الرئاسة استمرت الجماعة فى نهج الانتهازية السياسية لتطيح بفرقاء الأمس، وتنقلب على داعميها الأساسيين فى الانتخابات الرئاسية وتطيح بكل التعهدات التى أطلقها د. محمد مرسى فى لقاء «فيرمونت» فى الثانى والعشرين من يونيو 2012، وهو الموعد الذى سبق إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية بيومين. تعهد مرسى وقتها باختيار رئيس للوزراء من الشخصيات الوطنية والمستقلة، وبالعمل على إعادة تشكيل الجمعية التأسيسية لوضع الدستور، غير أن جميع تلك التعهدات وغيرها ذهبت أدراج الرياح فى ظل منهج جديد أراد الإخوان من خلاله إحكام قبضتهم على جميع الأوضاع فى البلاد، وكان الإعلان الدستورى الصادر فى الثانى والعشرين من نوفمبر الماضى بمثابة الضربة القاصمة للمجتمع الذى سرعان ما اتجهت شرائحه إلى الانقسام تحت وقع السلطات الاستبدادية التى منحها مرسى لنفسه فى الإعلان الدستورى وكرّس من خلالها لحكم ديكتاتورى غير مسبوق فى تاريخ البلاد. وقد حاول مرسى خداع شباب الثورة مراراً وتكراراً من خلال الحديث المتكرِّر عن هؤلاء الشباب وأهمية أن يكون لهم دور فى قيادة الوطن، وعن تضحيات شهداء الثورة، لكن على الصعيد الفعلى لم يحدث شىء مما وعد به الرئيس، بل تم تهميشهم وإقصاء دورهم تماماً. وهو ما حدث مع الأشقاء الأقباط الذين يتعرضون لعملية إقصاء متكرِّرة عن المشاركة فى الحياة السياسية، وهو ما خلّف حالة غير مسبوقة من الغضب فى أوساطهم. ولم يكن الحديث عن أخونة مؤسسات الدولة سوى أحد جوانب تلك السياسات التى راحت تُنسج خيوطها فى مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان المسلمين، ثم تأتى معلّبة للرئيس الذى يتولى إعلانها من خلال مؤسسة الرئاسة، وقد كشف الإعلان الدستورى السالف الإشارة إليه عن حقيقة سيطرة الجماعة على مقدّرات الأوضاع فى مؤسسة الرئاسة، حيث تنصّل نائب الرئيس السابق محمود مكى، ووزير العدل المستشار أحمد مكى، والعديد من مساعدى ومستشارى الرئيس من هذا الإعلان، مؤكدين عدم علمهم به، ومعبرين عن معارضتهم له، وهو ما ترتب عليه استقالة العديد منهم احتجاجاً. وكان واضحاً أن الجماعة التى سيطرت على مقاليد الأمور منفردة فى البلاد تتملكها غريزة الثأر والانتقام، فكانت التلميحات الصريحة فى خطاب الرئيس مرسى بعد فوزه فى ميدان التحرير عن الستينات وما أدراك ما الستينات!! كاشفة عن رغبة الثأر الدفينة فى نفوس الإخوان من نظام حكم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر. فيما مضت على جانب آخر للانتقام من جميع مؤسسات الدولة، وكان ما جرى من القضاء والإعلام والشرطة إحدى محاولات تحويل مؤسسات الدولة إلى خراب تتأسس على أنقاضه كيانات أمنية وعسكرية موازية لمؤسسات الدولة المصرية، وفوق كل ذلك الإساءات المتعددة للجيش المصرى الذى حمى الثورة وقيادته الوطنية السابقة والحالية. راحت الجماعة تضغط حتى تمكّنت من عزل المستشار عبدالمجيد محمود النائب العام، من منصبه بطريقة غير مشروعة، وتركت عناصرها والمحسوبين عليها يحاصرون مجلس الدولة والمحكمة الدستورية العليا وتُرهب القضاة عن أداء رسالتهم، بل وتهددهم علانية بالقتل عبر الهتاف الشهير الذى رددته تلك العناصر «يا مرسى إدينا إشارة واحنا نجيبهملك فى شيكارة»، ودون أن تحرك مؤسسة الرئاسة أو أىٌّ من مؤسسات الدولة ساكناً لحماية المؤسسات القضائية من هذا العدوان السافر. الحال نفسه تكرر أمام مدينة الإنتاج الإعلامى، حيث احتشد المئات فى مشهد غير مسبوق لإرهاب الإعلاميين ومقدمى البرامج على القنوات الفضائية، وراحت اللجان الإلكترونية التابعة للجماعة تشن حملات شرسة على مواقع التواصل الاجتماعى لإرهاب الإعلاميين والصحفيين، بل أعلن أحمد فهمى رئيس مجلس الشورى الإخوانى، عن تحدّيه أحكام القضاء التى صدرت بأحقية الزميل جمال عبدالرحيم فى العودة إلى موقعه رئيساً لتحرير «الجمهورية» بعد أن تم عزله بقرار تعسُّفى وغير مشروع. لقد بات واضحاً أن الإخوان الذين قفزوا على الثورة وسيطروا على المناصب العليا فى الدولة تنكّروا للآليات الديمقراطية التى أوصلتهم إلى سدة الحكم وراحوا يديرون الأوضاع فى البلاد وفق أهوائهم، عاصفين بمن يرفض تنفيذ تعليماتهم، ولعل ما تعرّض له وزير الداخلية السابق أحمد جمال الدين من إبعاد من منصبه يؤكد ذلك، فالرجل لم يتوان عن تطبيق القانون بحزم وملاحقة المجرمين وتتبُّع أوكار الجريمة، غير أن رفضه مخالفة القانون فى أحداث الاتحادية وعدم منحه أفضلية لجماعة الإخوان فى التعامل مع مقراتها التى تعرّضت للعدوان، كل ذلك عجّل بالإطاحة به من منصبه الوزارى، بل إن كرامة الوطن والمواطن، التى كانت من الأسباب التى قامت من أجلها الثورة لم تجد من ساكن قصر الرئاسة ما يدافع به عن تلك الكرامة ويرد العدوان عليها.. فإذا كانت للنظام خصومته فيما يتعلق بالمحكمة الدستورية وقضاتها، فما حجته إزاء تعدى وزير العدل المعيّن من الرئيس على أحد موظفى وزارته بصفعة على وجهه واتهامه وزملائه المعتصمين والمطالبين بحقوقهم بأنهم رعاع؟! للأسف لم يفعل الرئيس شيئاً للذود عن كرامة مواطن مصرى بسيط تعرّض للسب والضرب من أحد وزرائه، وكأن مؤسسة الحكم الإخوانية تشرِّع لمنهج جديد فى البلاد يكون فيه الصفع على الوجه والقتل على أبواب «الاتحادية» شِرعة ومنهاجاً، بل إن أحداً لا يكاد يلمس فروقاً جوهرية بين نظام مبارك الساقط ونظام الإخوان السائد، فبقدر ما كان النظام السابق يسعى مستخدماً كل السبل القانونية وغير القانونية لتوطيد دعائم حكمة وتوريثه لنجل الرئيس السابق جمال، يعمل النظام الحالى على استخدام ذات السبل لإنجاز التمكين وأخونة الدولة فى أسرع وقت ممكن دون اعتداد باعتراضات جميع الأحزاب والقوى السياسية المعارضة، بما فيها حزب النور السلفى، وبما يعنى أن هذا النظام عازم على المضى قدماً فى مخطط التمكين حتى النهاية غير عابئ بتضحيات الشهداء والفاتورة الغالية التى دفعها شعب مصر وشبابها لإنجاز ثورتهم النبيلة التى قفز عليها الإخوان واختطفوها بعد أن دبّروا لسرقتها بليل!! المؤكد أن جماعة الإخوان ورئيسها يسعون إلى استنساخ سياسات الحزب الوطنى المنحل نفسها، دون إدراك لأن البيئة التى نما فيها حزب مبارك غير البيئة الراهنة التى لن يسمح شبابها وقواها الثورية والسياسية الفاعلة لجماعة الإخوان بأن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء، فمصر الجديدة التى وُلدت من رحم الثورة لن تعود للوراء أبداً، ولن تسمح بمن اختطف الثورة أن يواصل السطو عليها رغماً عن إرادة أصحابها الحقيقيين.