كونتكت المالية توقع اتفاقية شراكة استراتيجية مع «أوراكل»    رئيس هيئة المواصفات: جاري العمل على إعداد مواصفة المعدات البيولوجية لمعالجة الهواء والغازات    يائير لابيد: التقيت وزير الخارجية الإماراتي في بلاده وقلت له إن الأمر الأكثر إلحاحًا هو عودة المختطفين    من يتصدر؟.. ترتيب هدافي الدوري الإنجليزي قبل صدام تشيلسي وتوتنهام الليلة    فاتن عبد المعبود: مؤتمر اتحاد القبائل العربية خطوة مهمة في تنمية سيناء    تشغيل 27 بئرا برفح والشيخ زويد.. تقرير حول مشاركة القوات المسلحة بتنمية سيناء    علاوة 3% الأبرز.. منح وتسهيلات كفلها القانون ل عمال مصر    الرئيس السيسي يشهد احتفالية عيد العمال ويفتتح عددا من المشروعات    رئيس جامعة أسيوط يرأس لجنة اختيار عميد كلية الآداب من بين 8 متقدمين    «هونداي روتم» الكورية تخطط لإنشاء مصنع جديد لعربات المترو في مصر    «الحركة الوطنية»: دعم الرئيس السيسي لقطاع الصناعة يقلل الفجوة الاستيرادية    المركزي يوافق مبدئيا لمصر للابتكار الرقمي لإطلاق أول بنك رقمي"وان بنك"    هئية الاستثمار والخارجية البريطاني توقعان مذكرة تفاهم لتعزيز العلاقات الاستثمارية والتجارية    وزير الزراعة يبحث مع نظيره اللبناني آليات تعزيز التعاون المشترك في مجال تبادل السلع    خبير اقتصادي: زيادة المعروض من السلع يؤدي لاستقرار الأسعار    رابط الاستعلام عن نتيجة امتحان مسابقة معلم مساعد فصل في 12 محافظة    رئيس كولومبيا يعلن قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل    سفير روسيا لدى واشنطن: اتهامات أمريكا لروسيا باستخدام أسلحة كيميائية في أوكرانيا "بغيضة"    ارتفاع حصيلة قتلى انهيار جزء من طريق سريع في الصين إلى 36 شخصا    السعودية تدعو الأطراف السودانية تغليب مصلحة الشعب السوداني ووقف الاقتتال    أول مشاركات الفيوم، المدرسة الرياضية تفوز بالمركز الرابع لهوكي المدارس الثانوية    تشكيل توتنهام المتوقع أمام تشيلسي بالدوري الإنجليزي    رسميًا غياب نجم الأهلي عن مباراة الجونة للإيقاف    نجت من مصير نيرة أشرف.. ننشر الاتهامات الموجهة للطالب المعتدي على زميلته في طب الزقازيق    توقعات حالة الطقس اليوم.. الأرصاد: طقس حار نهارًا ونشاط رياح على هذه المناطق    التضامن: انخفاض مشاهد التدخين في دراما رمضان إلى 2.4 %    تحرير 30 محضرًا تموينيًا في كفر الشيخ    السيطرة على حريق اندلع ببعض أشجار النخيل في أسوان (صور)    راجعين من فرح.. مقتل أب وابنه رميا بالرصاص في جبال قرية الدم والنار بقنا    «رقم صادم».. ضبط 12 ألف قضية تسول خلال شهر    إيرادات فيلم شقو تتراجع إلى المركز الثاني لأول مرة.. تعرف على السبب؟    توقعات الفلك وحظك اليوم لكافة الأبراج.. الخميس 2 مايو 2024    أول تعليق من ميار الببلاوي بعد وفاة عمها    "مئة مبدعة ومبدعة" يُوثق المنجز النسوي الأدبي بمعرض أبو ظبي الدولي للكتاب    دعاء النبي بعد التشهد وقبل التسليم من الصلاة .. واظب عليه    الكشف على 1361 مواطنا ضمن قافلة «حياة كريمة» في البحيرة    رئيس الوزراء يُهنئ البابا تواضروس الثاني بعيد القيامة المجيد    تفاصيل مفاوضات الأهلي مع خادم دياو بديل معلول    الفنان ياسر ماهر ينعى المخرج عصام الشماع: كان أستاذي وابني الموهوب    هل توجد لعنة الفراعنة داخل مقابر المصريين القدماء؟.. عالم أثري يفجر مفاجأة    صباحك أوروبي.. حقيقة عودة كلوب لدورتموند.. بقاء تين هاج.. ودور إبراهيموفيتش    غضب الله.. البحر الميت يبتلع عشرات المستوطنين أثناء احتفالهم على الشاطئ (فيديو)    بعد أزمة أسترازينيكا.. مجدي بدران ل«أهل مصر»: اللقاحات أنقذت العالم.. وكل دواء له مضاعفات    هل يستجيب الله دعاء العاصي؟ أمين الإفتاء يجيب    ملخص عمليات حزب الله ضد الجيش الإسرائيلي يوم الأربعاء    تحديد أول الراحلين عن صفوف برشلونة    مشروع انتاج خبز أبيض صحي بتمويل حكومي بريطاني    تعرف على أحداث الحلقتين الرابعة والخامسة من «البيت بيتي 2»    ضبط عاطل وأخصائى تمريض تخصص في تقليد الأختام وتزوير التقرير الطبى بسوهاج    تأهل الهلال والنصر يصنع حدثًا فريدًا في السوبر السعودي    متى تصبح العمليات العسكرية جرائم حرب؟.. خبير قانوني يجيب    عميد أصول الدين: المؤمن لا يكون عاطلا عن العمل    لاعب الزمالك السابق: إمام عاشور يشبه حازم إمام ويستطيع أن يصبح الأفضل في إفريقيا    هذه وصفات طريقة عمل كيكة البراوني    أهمية ممارسة الرياضة في فصل الصيف وخلال الأجواء الحارة    حكم دفع الزكاة لشراء أدوية للمرضى الفقراء    مظهر شاهين: تقبيل حسام موافي يد "أبوالعنين" لا يتعارض مع الشرع    بعد أيام قليلة.. موعد إجازة شم النسيم لعام 2024 وأصل الاحتفال به    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.




نشر في الوطن يوم 15 - 05 - 2016

إنها زيارتى الأولى إلى الشام، لذا ظللت أسبوعاً كاملاً قبل السفر أشحن نفسى بفالس الحنين، إيقاع يسحبنى إلى درب مختلف؛ يصاحبنى فيه صوت محمود درويش: «أفضل ما أمرن به قلبى على الكلام هو التغنى باسم دمشق»، ونزار قبانى: «فى الشام تتغير جغرافية جسدى»، وفيروز: «حسبى أننى من جبل هو بين الله والأرض كلام»، ثم يعلو صوت «عبدالناصر» فى خطابه الشهير أمام مجلس الأمة بمناسبة إعلان أسس الوحدة بين مصر وسوريا: «لقد سبق كل فجر شهدنا مطلعه ليل طويل». فيما تطوقنى مشاهداتى السينمائية بصور «إسماعيل ياسين فى دمشق» من باكورة الأفلام التى أعقبت الوحدة، ورسمت صورة للوطن المرابط خلف الصورة، حتى لو فى فيلم كوميدى بسيط لا يكتظ بوجع الأسئلة، كما فى فيلم آخر هو «أحلام المدينة» للمخرج محمد ملص الذى يُلخص مشهد النهاية فيه الحلم المخبأ فى التفاصيل: شاب ناصرى ينظر إلى القمر، ثم ينادى الصبى «ديب»، ويدعوه لمشاهدة القمر، معتبراً أن نور القمر دليل على أن الله ذاته مع الوحدة التى أُعلنت بين مصر وسوريا فى عام 1958، وحين عرفت أن دخولى الشام سيكون عبر بيروت تذكرت هند رستم فى فيلم «الراهبة»، وهى تهتف: «تحيا الجمهورية العربية المتحدة»، عندما استقبلت حافلة مصرية توقفت عند المقهى الذى يمتلكه والدها، وهى فى طريقها إلى دمشق، من هذا التدفّق الصوتى والمرئى بدأت رحلتى إلى الشام، ليس استدعاءً للماضى «السعيد» أو خضوعاً لرومانسية مريضة، وإنما على طريقة «لوميير» مخترع السينما، حين قال عند مشاهدته أول صورة تُعرض على الشاشة: إن هذا أعظم نضال ضد الموت، كان «لوميير» يقصد بالطبع التعبير عن قدرة هذا الاختراع العجيب على الاحتفاظ باللحظات التاريخية والأحداث المهمة ونقلها عبر الأجيال والأزمات، وكنت أنا أحاول أن أنفض عن رأسى هذه اللحظة الانفعالية المتسرّبة من المشهد الإعلامى المتشنّج الذى يُجيّش للفوضى والقتل والجريمة، ربما كانت هى وسيلتى للمقاومة وربط الأمس باليوم، فالتاريخ قد يكون هو الفخ كما أخبرنى المخرج السورى مصطفى العقاد حين التقيته آخر مرة بالقاهرة فى بهو فندق لسلسلة فنادق شهيرة بالقاهرة قبل أن يقتله انفجار إرهابى فى بهو فندق آخر للسلسلة نفسها بالعاصمة الأردنية عَمّان.
ثمة شىء ينساه الجميع فى زحمة «الفُرجة» على صور المدن السورية التى تنهار مبانيها وتغرق فى مزيد من دماء أبنائها، أن ما يحدث فى سوريا ليس ثورة شعبية؛ فالثورة الشعبية انتهت منذ تسليحها وإعلان الجيش الحر، ثم ظهور العصابات الإرهابية بأسماء مختلفة، من «جبهة النصرة» إلى «داعش» لا فرق؛ هى أنياب لأطراف خارجية أرادته صراعاً مسلحاً لتمزيق سوريا، صراع مدعوم من نظامَى آل سعود وقطر، وخلفهما أمريكا؛ من أعلنت نفسها شرطياً للكون، فيستمر القصف ويزيد النزيف وينتشى القتلة ويكتبون فصلاً جديداً فى زمن الجريمة حين يذرفون الدمع بالبساطة نفسها التى أراقوا بها دم الأبرياء وسحقوا عظامهم، يقتلون القتيل ويمشون فى جنازته، ثم يستعرضون صور الموت والدمار، كأنهم لم يفعلوها، وعلى هذه الخلفية ذهبت إلى الشام علّنى أرى الصورة عن قُرب وتتضح تفاصيل لا تخبرنا بها نشرات الأخبار التى تُحصى كم مجزرة؟ وكم قتيلاً وجريحاً ومهاجراً ولاجئاً؟، ولا تكترث بالبشر ومصائرهم سوى أنهم مجرد أرقام يمكن عدّها، هذا إن لم تُحرف الوقائع وتنشر قصصاً ملفقة عن الوضع فى سوريا؛ بينما تتجاهل الأوضاع فى اليمن مثلاً.
الطريق إلى دمشق
رغم أنه فى لحظة هبوط الطائرة المصرية بمطار رفيق الحريرى، اقتحمتنى مشاهد الفيلم الأمريكى «اللعبة العادلة» إخراج دوج ليمان، الذى يتناول الحجج المزعومة لإدارة الرئيس الأمريكى السابق جورج بوش فى غزوه العراق، كواحد من عشرات الأفلام التى تناولت هذا الشأن، فلا تحتاج للسؤال التقليدى عما يُزعج الأمريكان والغرب فى سوريا، إلا أننى تذكرت صديقاً لبنانياً راح ذات يوم يُعرّفنى بشوارع بيروت على طريقته، فيقول: هون تم اغتيال فلان، وهون قُتل علان فى الانفجار الشهير، ولما استوقفته متسائلة: وبالنسبة لهون غنّى فريد، أو هون دبّكت الصبوحة؟ يعنى بالنسبة للأحداث السعيدة فى هذا البلد؟ أجاب بلا حماس: لبنان هيك وهيك!! المهم انطلقت مع رفاقى من بيروت إلى دمشق برّاً عبر الطريق الوحيد تقريباً الآمن، الذى يبلغ طوله 112كم، ويربط مدينة دمشق بريفها الغربى ولبنان، كما يربط مدينة بيروت بالبقاع والمناطق الشرقية من البلاد؛ وتُعتبر نقطة المصنع هى الحد الفاصل بين الجزء السورى والجزء اللبنانى، مررنا بأكثر من حاجز أمنى، حيث يطالعون جوازات السفر والأوراق الثبوتية بهدوء ودون أى مظاهر للقلق، كانت الريح الخفيفة تهبّ على وجهى من تلال وُزّعت بين الأحمر والأخضر، ولافتات تشير إلى الزبدانى وأسماء قرى أخرى فى ريف دمشق تحت وطأة «داعش» أو «النصرة»، فتتسع النقاط الفارقة بين التل الذى يسكنه الإرهاب والأرض التى تمرق عليها السيارات مسرعة ومتجاوزة اللافتات ومفترق الطرق الرمادية ومنحنيات شهدت ضحايا وشهداء ومواضع العشب اليابس كوشم تماهى مع جسد المكان، إن المسافة بين الشجاعة والخوف هى الحلم بالخلاص وانتهاء الهمجية الدولية التى تأخذ الشام إلى الحرب، بينما نُفتش فيها نحن عن معجزة.
ليس للدمشقى إلا شامه
من الأشياء التى أردت أن أفعلها فور وصولى إلى دمشق هى زيارة مخيم اليرموك، لكن الأمر كان مستحيلاً فى ظل تمدُّد «داعش» فى المخيم والاشتباكات المتواصلة بينها وبين «جبهة النصرة» للسيطرة على المخيم الذى أُغلق على أهله المنسيين فى لعبة القتل، لكنى مشيت صوب دمشق وناسها حسبما تكرّس فى رأسى من حكايات التاريخ والحاضر، كنت أتبع وصف المكان، كما فى القصائد وأفلام السينما التى خلقت واقعاً بمقياس آسر للخيال. وتساءلت: لو كانت الكلمة والكاميرا شاهدة على مَنْ مروا هنا، هل كان الشام بقى على اتساعه ولم تضق به الجغرافيا لتصبح دمشق وحدها مَنْ تحمل اسمه؟ أُمسك بسؤالى فيما أحاول أن أزيح الصورة الموجعة لهذه الصغيرة التى تسرّبت بيننا عند نقطة تفتيش حدودية، كانت تسبح فى ظل السيارات ولا تدرك بالتأكيد عمرها الندى المقطوف، وهى تنادى: «بحياة الإمام على؛ تعطينى شى.. معك ساندويشة؟».
دمشق ليست حيادية بالنسبة لى، هى الإذاعة التى استمعت عبر أثيرها لأول مرة إلى أغنية «يا جمال يا حبيب الملايين» كاملة بصوت الفنان عبدالغنى قمر، هى محاولتى للفرار من ثقل المذاكرة فى الثانوية العامة والصعود إلى سطح منزلنا فى قريتى الصغيرة، لكى ينضبط مؤشر الراديو «الترانزستور» وأستمع إلى حلقات مسلسل إذاعى يروى سيرة الشهيدة اللبنانية «سناء محيدلى»؛ أول فتاة فدائية قامت بعملية استشهادية ضد جيش الاحتلال الإسرائيلى فى جنوب لبنان، هى زميلة الصِبا فى المدرسة التى كانت تجلب لنا أشهى المأكولات من صُنع والدتها السورية التى تزوجت ضابطاً مصرياً فى الجيش المصرى أثناء الوحدة وأنجبا زميلتى التى لم أسألها يوماً عن شكل دمشق، حين كانت تزور بيت جدها فى الإجازات الصيفية، لذا كنت أسير فى الشوارع وأنا أتبع وصف المكان بمخيلة أربكتنى فى البداية، لأننى خشيت أن تكون تصوراتى هى انعكاس لأساطير مضت وولت، وأن تصير أسئلتى عبئاً على الروح وعلى العقل؛ حتى وجدتنى أشعر بالألفة بعد خطوات قليلة وأعرف الشوارع التى تحيط بفندق الشام الذى سكنت فيه ولم أخطئها، الصالحية وشارع الحمراء والشعلان وساحة يوسف العظمة وساحة المرجة ومحطة الحجاز للقطارات، كل شىء فى هذه الشوارع ذكرنى بالقاهرة: المبانى والبشر، كل الوجوه كانت مألوفة؛ هذه الوجوه أعطتنى الشعور المستمر بأنى لست فى مكان غريب؛ المكان عرفنى كما عرفته، لكن الأهم أننى أدركت أنه لا وقت هنا لترف الاكتئاب، فالعاصمة السورية التى تعنى الأرض المسقية، نسبة إلى سهلها الخصيب الذى يرويه نهر بردى، مدينة الياسمين والفنون والآداب والتاريخ العريق تعيش أوقات المقاومة؛ حرفتها وحرفتنا الأصلية، الإرهاب يصول ويجول فى الجوار والحرب وضعت بصمتها على الحياة، فتنقطع الكهرباء مراراً، وتنتشر مولدات الكهرباء الإضافية أمام المحال وتزداد الأسعار بما لا يتلاءم مع دخل الفرد على الإطلاق، لكن الشوام الباقين فى دمشق يواصلون حياتهم بأسلوب يفيض عن المعنى ويفاجئونك بالسؤال: كيف رأيت الشام؟ عجبتك؟ هتزورنا مرة تانية؟ ولما تجيب: نعم، يقولون: يا ميت أهلاً وسهلاً. إذن طريقتهم فى المقاومة هى استمرار الحياة فى وطن يفضلون أن ينطووا فى ظل شمسه ولا يغادرونه وإن تعبوا.
لم أصادف شخصاً أراد أن يُزايد ويصنع من نفسه بطلاً فى المواجهة الحادة واليومية، أو أن نصاب نحن بضيق النظر، فنرى بلاده مجرد قضية تستحق التعاطف، بدءاً من البائعين فى الأسواق الذين يتحدّثون عن دوافع إنسانية لآلامهم وآمالهم، وحتى النجمين دريد لحام وبسام كوسا اللذين أكدا فى لقائى بهما أنهما لن يغادرا سوريا فى محنتها. كشخصية فى فيلم أبيض وأسود قديم، جلس الرجل الستينى أمام محله الصغير للحقائب الجلدية بمنطقة المرجة، يراوغ دمعة فى عينه لتبقى فى القلب؛ يقل كلامه ويكثر إصغاؤه لصوت «أم كلثوم» يتسلل من راديو قديم: «انت عمرى اللى ابتدا بنورك صباحه»، أتفحص إحدى الحقائب وأسأله: شغل سورى؟ يجيب: ما فى غير السورى، بطلنا استيراد. ثم يعود ويصغى ل«أم كلثوم»، ولما أنتهز الفرصة وأسأله عن بقائه فى الشام، يرد: ما فى غير الشام، فى البداية تصورت أن إجاباته المقتضبة لأنه لا يهوى الحديث مع الغرباء، حتى صار يشرح لى باستفاضة أن الإنسان يُفرض عليه أحياناً الاختيار، وحين يوضع أمام هذا التحدى؛ فعليه حسب تعبيره أن تصغر أكتافه أو يرفع جبينه، وقد اختار الثانية وقرر البقاء؛ وهو التحدى الذى يرادف المقاومة.
بعد يومين، انتبهت إلى أننى أمارس طقوس حياتى العادية؛ فرحت أصلى الجمعة فى المسجد الأموى، وزُرت الحسين، والنبى يحيى (يوحنا المعمدان)، وضريح صلاح الدين الأيوبى، توغلت فى فضاء البخور والمسك، وخرجت إلى سوق الحميدية فى الجهة المقابلة، ومنه دخلت سوق البزورية وسوق الحرير والخياطين إلى سوق العصرونية، حريق هائل حدث فى العصرونية هذا اليوم والتهم أكثر من مائة محل؛ وتناثرت الشائعات عن أسبابه، ما بين ماس كهربائى، أو فعل فاعل لم يتوصل إليه أحد، وإن ذكّرهم الحريق بما حدث قديماً بسوق شعبية مجاورة كان اسمها «سيدى عامود» حتى أشعله الغزاة الفرنسيون، فصار اسمها سوق الحريقة، وبينما كنت أتأمل البيوت بطريقة آلية لتخفيف وجع القلب، وأكثر البيوت ثقلاً على القلب، تلك التى تحمل آثار القصف والمحملة بحكايات الفقد أو الهجر، اقتربت منى سيدة خمسينية بخُطى مترددة وسألتنى: مصرية؟ وبمجرد ما جاوبتها؛ فرّت دموعها، وهى تشد على يدى وتقول: ولادنا عندكن فى مصر، الله يخليكن خلوا بالكن عليهن.
دخلت لأشترى كتاباً من مكتبة تواجه الفندق، وأحوال الكتب وأصحابها لم تختلف بالطبع عن أحوال البلاد فى زمن الحرب، ربما كانت آخر دورة لمعرض دمشق للكتاب فى عام 2011، وكانت حملت عنوان «سوريا بخير» قبل أن يتوقف المعرض، نفس ما حدث مع مهرجان دمشق السينمائى الذى تقيمه المؤسسة العامة للسينما، وإن كانت المؤسسة تسعى قدر الإمكان لتجاوز الأزمة بإنتاج أفلام وإقامة مهرجانات صغيرة، كمهرجان سينما الشباب والأفلام القصيرة الذى أقيمت دورته الثالثة مؤخراً، وأهديت إلى روح المخرج مروان حداد، بمشاركة 30 فيلماً تقدم تجارباً متنوعة لسينمائيين شباب يخطون خطواتهم الأولى بمساندة المؤسسة، ولعل المهرجان خطوة تليها مهرجانات أخرى تُنعش الحركة الفنية، كما صرح محمد الأحمد، مدير المؤسسة، وتضعها على بلاطة التحدى فى مواجهة الإرهاب، خصوصاً أن الحركة الفنية بسبب الأحداث عانت كثيراً، فبينما توقفت السينما قليلاً كانت العروض المسرحية تحاول المواصلة بصعوبة، وحفلات موسيقية بحضور قليل فى دار الأوبرا، ولعلها انفراجة تعلن عن نهار سينمائى جديد، وإن كانت دور العرض السينمائى انحسرت، ولم يبقَ تقريباً سوى مجمع سينما سيتى (دمشق سابقاً) من قائمة طويلة لدور العرض كانت قد أثرت الوجدان والذاكرة السورية، ومنها عائدة، غازى، الحمرا و.. دنيا التى حضر فيها جمال عبدالناصر فى نهاية الخمسينات الفيلم الإيطالى «برسلينو بانو ايفينو»، ودفع ثمن التذكرة.
وفى ليلتى الدمشقية الأخيرة، كنت أواصل قراءتى مسرحية صموئيل بيكيت «فى انتظار جودو»، حين ظهر الرئيس الأمريكى باراك أوباما مُصرحاً بإرساله 250 جندياً أمريكياً إلى سوريا، ومضيفاً أن ما يجرى عملية صعبة ومعقّدة، وأن أوروبا بحاجة إلى تحمل نصيبها من عبء إقرار الأمن الدولى، أتوقف عند جملة على لسان إحدى شخصيات المسرحية: «إنّها إشارةٌ جيّدة، هُو توقّف عن البُكاء وأنتَ أخذت مكانه»، وصوت محمد عبدالوهاب فى الخلفية ينساب بأشعار أحمد شوقى: «سلام من صبا بردى أرق.. ودمع لا يُكفكفُ يا دمشق».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.