كلنا يتحدث باسم الشعب، يثنى على اختياراته، يتغنى بتاريخه وأمجاده، يؤكد على وعيه وقدراته، غير أن الأمر سرعان ما ينقلب رأساً على عقب، إذا تعارضت مصالحه، أو جاء الاختيار على عكس ما يتوقع أو يريد!! لقد كان شعار «الحرية» واحدا من أبرز شعارات ثورة الخامس والعشرين من يناير، بل إن أحد أهم أسباب اندلاع هذه الثورة هو التزوير الفاضح للانتخابات البرلمانية التى جرت فى نهاية عام 2010، ولكن يبدو على ما أعتقد أن للحرية لدى البعض مفهوماً مختلفاً عن هذا المفهوم الذى يسكن فى عقلك وعقلى!! لقد أشاد المصريون كثيراً بنتائج الانتخابات البرلمانية التى شهدتها البلاد فى أعقاب الثورة، واعتبرت النخبة أن هذه الانتخابات، حتى وإن جاءت بأغلبية كاسحة للإسلاميين، إلا أنها كانت تعبيراً صادقاً عن إرادة الشعب وقناعاته واختياراته. وفى الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، وقبل أن يتم الإعلان عن النتائج، انطلقت الآلة الإعلامية تعكس تصريحات النخبة ورموز العمل السياسى التى راحت تشيد بالأداء الحضارى للمصريين وسلامة الإجراءات الانتخابية، بل إن هناك ممن أعلنوا أكثر من مرة انتقادهم لأداء المجلس العسكرى راحوا يراجعون أنفسهم، ويعلنون إشادتهم بحيدة المجلس وحرصه الشديد على تسليم السلطة فى موعدها وضمان نزاهة العملية الانتخابية. وما أن أعلن عن بدء إعلان نتائج وصعود د. محمد مرسى والفريق أحمد شفيق ليتصدرا المشهد حتى انقلبت الصورة رأساً على عقب، فأصبح الشعب المصرى فى نظر البعض شعباً قاصراً ليس لديه القدرة على الاختيار الصحيح، وهناك من رأى أنه شعب استمرأ العبودية لأنه اختار واحداً من رموز النظام السابق ليصعد به إلى جولة الإعادة، ورأى آخرون أن هذه النتيجة هى محاولة لإفشال الثورة وإنهائها!! وبدأ الإعلام «إياه» كما هى العادة وصلة ردح لتطال من هذا المرشح أو ذاك، استخدمت فيها كل وسائل التقنيات والصورة، وبتر الكلمات والعبارات لكلا المرشحين، وتصويرها على غير مقصدها، وراح الكل يحسم نتيجة الجولة الأخيرة على طريقته، فانضم بعض العلمانيين والليبراليين إلى حملة د. محمد مرسى ونسوا مواقفهم، ليس حباً فى فكر الإخوان المسلمين، ولكن كراهية فى المرشح أحمد شفيق، وهناك أيضاً من راح يعلن بنفس الطريقة عن وقوفه جنباً إلى جنب مع أحمد شفيق، ليس حباً ولكن نكاية فى الإخوان وخوفاً من احتكارهم لمنصب الرئيس!! وبدأنا نشهد على الساحة مصطلحات من عينة «هل تقبل بالطاعون الذى يسهل الشفاء منه، أم تقبل بالسرطان الذى يستحيل أن ينتزع من الجسد؟». وعمت الأوساط الشعبية «نكات» ساخرة تعمدت الإساءة لكلا المرشحين.. وأصبحنا أمام حرب خفية تارة وعلنية تارة أخرى بين المتنافسين. انقسم الناس فى كل مكان على أرض المحروسة بين فريق «فلولى» وفريق «دينى»، وأصبح الكثيرون يحجمون على الإعلان عن مواقفهم إذا ما ووجهوا بالسؤال الذى يتردد «يا ترى أنت مع مين، مرسى ولا شفيق؟»، فتأتى الإجابة فى أغلب الأحيان غامضة، خوفاً من المواجهة، فالاتهامات جاهزة، وردود الأفعال غير متوقعة!! وأمام هذه الحالة التى تزايدت حدتها بعد الإعلان عن النتيجة النهائية عصر أول من أمس «الاثنين»، كان طبيعياً أن تنطلق المظاهرات وأن تحرق المقرات الانتخابية للمنافسين، وأن يتحول الأمر إلى حرب شوارع بدأت ولا نعرف كيف تنتهى!! وقد ساعد على ذلك عدم اعتراف بعض المرشحين بنتائج المعركة الانتخابية، فهناك من يرى أنه الأحق، وفى سبيل ذلك يطلق الاتهامات على عواهنها، وهناك من يعتبر أن صعود شفيق للإعادة يعنى أن الثورة قد «قتلت» وأن صعود محمد مرسى يعنى أن البلد قد «ضاع»!! وهذا التحريض السافر كان سبباً من أسباب ما تشهده البلاد من حشود جماهيرية عادت تزحف مرة أخرى إلى الميادين، وكأننا على أبواب ثورة جديدة، لا نعرف ضد مَن هذه المرة، وهى بالقطع تعكس صراعاً مجتمعياً، قد يؤدى بالبلاد إلى حرب أهلية، إن لم يكن هناك حرص على الوطن وعلى الثورة، لأن ذلك معناه باختصار أننا نفتح الطريق أمام انقلاب عسكرى على كل الإنجازات التى تحققت، وساعتها سيقف البعض ليقول: «نعم للانقلاب.. لا للفوضى»!! إن الأيام القادمة لن تكون سهلة، بل سيواجه فيها المجتمع تحديات خطيرة، طالما ظلت الأحوال فى البلاد بلا ضابط وبلا رابط، وهى حالة تغرى بعض دعاة «الفوضى» الذين راح كل منهم يسعى إلى طرح أجندته على حساب الوطن حاضره ومستقبله!! إن السؤال الذى يطرح نفسه: ماذا إذا تصاعدت الأحداث هل سيترك الوطن مستباحاً لكل من يريد استباحته، وهل سيظل المسئولون عن أمن الوطن يتفرجون على الأحداث دونما تدخل حاسم وحماية للاستقرار؟! لو حدث ذلك فلنقل على مصر السلام، وليجهز كل منا أسلحته المشروع منها وغير المشروع، ولنعلن بصراحة ووضوح «وفاة» كثير من المسلمات والبديهيات التى قامت عليها أسس الدولة المصرية. ساعتها لن تلوموا إلا أنفسكم، لأن الشعب لن يرحم، حتما سيحاسب كل المفرطين والمرتعشة أياديهم، والذين سوف يسلموننا تسليم مفتاح للفوضى الهدامة، مع أنه كان بيدهم أن ينقذوا البلاد، لكنهم خضعوا للتهديد والابتزاز وسلموا البلد لأعدائه الحقيقيين من دعاة الفوضى والخراب والدمار!!