تأمَلتْ في تلك العشبة بجانب بيتهم الصغير في طماي الزهايرة، ونظرت إلى إتساع الأفق، كانت تعرف الآن وتيقن أن بإمكانها أن تمد حدودها، فلم تستسلم، وتعلمت، وغنت ....عرفت أن للمكان حواجز لا تكسرها فقط القطارات وإنما الكهرباء، فها هي تتلمذ على يد الشيخ أبو العلا دون أن تراه، حيث جمد صوته حفرا على إسطوانة تعود إليها الحياة في جراموافون بيت العمدة ببلدهم. نعم تستطيع أن تقفز إلى المجهول، فهي ذكية وسريعة البديهة وأيقنت في قلبها أن سيكون لها حلقة أصدقاء يبنون معها مجدا لا حدود له. وعندما نذكر كوكب الشرق، نتذكر معها: أحمد رامي، محمد القصبجي، رياض السنباطي، بليغ حمدي، ومحمد عبدالوهاب...وآخرون. وبسرعة فائقة انتشر صوت أم كلثوم على الأسطوانات ثم الراديو، ليكون الخميس من كل شهر عيد للمصريين والعرب. في فبراير من كل عام تتجدد المشاعر في قلوب عشاق كوكب الشرق، فمنذ 39 عاما وبالتحديد في الثالث من فبراير 1975 انتقلت سيدة الغناء العربي إلى بارئها ، فارقنا الجسد، لا الصوت، فارقنا التواجد لا المؤانسة... ومازالت بعد كل هذه الأعوام وتغير الأذواق، مثالا على حب مصر. عبقرية موسيقية تخلد لمدرسة الإنشاد الديني، أعظم ما في مصر من الآف السنين والسبب الرئيسي وراء عبقريتها في عدم إعادة لحن كلمات الكوبليه الواحد بنفس التصرف، فهي دائما ما كانت تضفي لونا جديدا ومسارا مختلفا يحفز خيال المستمع ويطربه. فأم كلثوم تحكمت في ميكرفونات جسدها الطبيعية، فمع إتقانها للمخارج الأنفية ومخارج أعلى الصدر الجهورية، نجدها في الآهات في اللحن القافز، خاصة مع الشيخ زكريا والسنباطي تستخدم مخارج الجبهة التي تضفي لونا خفيفا للصوت ويشبه في تقنيته الغناء الغربي الأوبرالي. كُرمت أم كلثوم في عهد الملك فاروق حيث منحها "وسام الكمال" على براعتها الموسيقية الفائقة،. كما تقلدت وسام الإستحقاق من الدرجة الأولى وقلادة النيل في عهد جمال عبد الناصر. كما أثنى عليها الرئيس السابق أنورالسادات وله مراسلات شكر لأعمالها الخيرية. كما كُرمت بأعلى الأوسمة من جميع البلدان العربية، فعلى سبيل المثال لا الحصر: وسام الرافدين من دولة العراق. لم تبتعد أم كلثوم عن قريتها وعن مركزها "السنبلاوين"، فلقد أنشئ أول فرع بنك مصر هناك بناء على طلبها. وكانت فيلتها في الزمالك مفتوحة للأقارب والمعارف من ذوي الحاجة يقضونها في القاهرة. وكما كانت مليئة بالعطاء لأهل قريتها، كانت معطاءة لمصر، فها هي تتبرع بإيراد حفلاتها العامة للمجهود الحربي بعد نكسة 67. ست الكل : ثومة، لم تكن مجرد مطربة ذات موهبة وسطوة عالية وإنما مؤسسة متكاملة تعكس تاريخ بلدنا الحبيبة مصر، فهي صوت مصر وهي صوت الحب وهي صوت مازال يأخذنا إلى عالمه الخاص جدا، حيث لم تزل تقنع كل فرد أنها تُغني له شخصيا....رحمها الله وأسكنها فسيح جناته.