صحفى أسير ينشئ صندوقًا لدعم أدب الأسرى.. وآخر يحرر أخبارًا من المعتقل 12مخطوطة للأسرى وُزِعت على كل مكتبات فلسطين وفى أراضى 48 والأردن ومعرض عمَان الدولى للكتاب «يموت الزمار وصوابعه بتلعب»، ويسجن الصحفى ولا يزال يكتب.. فى فلسطين حيث تسقط كل النظريات المعروفة وتنشأ أخرى جديدة، صحفيون فى مهمات صحفية داخل السجون الإسرائيلية وآخرون يؤلفون روايات، فيما ينشأ نوع جديد من الأدب فى فلسطين باسم «أدب المعتقلات والسجون».
يؤمن صحفيو فلسطين أنه إذا قصف الاحتلال أقلامهم، سيكتبون بالطباشير، وإذا صادر صحفهم، سينشرون على الجدران، فى الشوارع وعلى الشجر والطرقات، كلما اعتقل صحفى لأنه كتب قصة، واصل عمله من داخل السجن، حتى أصبح الصحفيون الفلسطينيون صداعًا فى رأس الاحتلال يخشاهم كما يخشى الموت.
الكاتب الصحفى أمين أبو وردة، عاش مع عائلته رحلة التهجير من مدينة يافا باتجاه مخيم بلاطة فى نابلس عام 1967، يعمل بالصحافة منذ عام 1992، حاصل على الدكتوراه فى الإعلام وماجستير التنمية والتخطيط السياسى، اعتقل 3 مرات الأولى عام 1988 وقضى بها 6 أشهر واعتقل إداريًا عام 2012 لمدة 10 أشهر دون أن توجه له تهمة والثالثة عام 2015.
أبو وردة صحفى ظلت أصابعه تكتب تقارير وأخبارًا بعد اعتقاله الأخير «شعرت أننى فى مهمة صحفية اعتقالية فى سجن مجدو فى شمال فلسطين، بدلًا من أن ترسلنى الصحيفة لتغطية الحرب فى أفغانستان مثلًا، أرسلتنى على السجن، من اللحظة الأولى التى اعتقلت بها، بدأت فى كتاب (بصمات فى الصحافة الاعتقالية..تجربة إعلامية خلف قضبان الأسر)، ظللت أكتب عن ظروف اعتقالى والقبض علىّ، ودخولى السجن وانتقالى من سجن إلى آخر وظروف المحكمة».
وأضاف «اشتغلت صحافة بالسجن، رغم أن الكتابة داخله ليست بالأمر الهين، فالمراقبة ليل نهار، وتفتش الغرف مرتين يوميًا، وأحيانًا كانت تصادر الكتابات والرسائل»؛ لكن صحفيًا مشاغبًا كأبو وردة لم يغلب، كان يكتب 3 نسخ من كل تقرير أو قصة، يحتفظ بواحدة فى غرفته وأخرى فى غرفة زميل له وثالثة مع أسير مُحرر، تكتب بخط صغير جدًا وتثنى وتوضع فى مكان مخفى بملابسه، فإذا صودرت نسخته بقيت نسختان أخريان منها.
يمزح قائلًا «كنت كل يوم فى السابعة صباحًا، أحلق وجهى وأرتدى ثيابى حاملًا دفترى وقلمى من الغرفة، متنقلًا بين الغرف، فكان هناك شاويش؛ أول ما يشوفنى يقولى امشى يا باص جامعة بيرزيت، الجداد كانوا يفكرونى أستاذ جامعة ولأننا معتقلون إداريون فلا يفرض علينا لبس السجن».
واستغل أبو وردة، سماح إدارة السجن بأن يخرج كل أسبوع 5 ورقات لعائلته، فى أن يخرج بها ما كان يكتبه باستمرار، كما استخدم بريد السجن فى إرسال أوراقه مقابل مبلغ زهيد، لتصل بعد 40 يومًا لمكتبه وتطبع وتنشر.
واستغل أحد قوانين السجن فى حرية تنقل الأسير بين أقسامه كونه معتقلًا إداريًا، كان يمكث شهرين فى كل قسم يكتب قصصًا وتقارير عن زملائه المعتقلين ثم يذهب لآخر يكتب قصصًا جديدة وهكذا، لافتًا «كتبت طلبًا لنقلى من سجن مجدو إلى سجن عوفر شمال رام الله، وهى رحلة 3 أيام فى سيارة مصفحة، إيدى ورجلى مربوطين ورا، عشان أروح دقيقة واحدة أقف فيها أمام المحكمة، لتمدد اعتقالى أو تعطينى خروجًا، فى هذه الرحلة أمر على 10 سجون يسمونها (البوستة)، ألم فيها كل المسجونين بنفس الطريق، احتككت مع أناس معتقلين سمعت قصصهم وكتبت عنهم».
رصد أبو وردة الحياة الأدبية داخل السجن وعقد لقاءات مع بعض الأدباء المعتقلين، وكتب العشرات من القصص الإنسانية وبحثين دراسيين أجراهما أثناء اعتقاله، الأول عن رأى الأسرى فى تناول وسائل الإعلام الفلسطينية لقضاياهم، عبر استبيان أسئلة، جمعها وحللها مستعينًا بأحد أساتذة الرياضيات بالجامعة، كان معتقلًا معه بالسجن واعترضت إدارة السجن على نشرة للدراسة، لتخوفها من النتائج، البحث الثانى أجراه أثناء اعتقاله عام 2015 عن علاقة الأسرى بشبكات التواصل الاجتماعى، لأن أغلب المعتقلين اعتقلوا بسبب استخدامهم (فيسبوك) ونشرهم مواد تحريضية ضد الاحتلال.
وأعطى الصحفى المعتقل، باقى المعتقلين والأسرى دورات صحافة وكتابة وعلاقات عامة (للقيادات والوزراء السابقين ونواب المجالس التشريعية) داخل المعتقل واستخرج لهم شهادات اجتياز الدورات مطبوعة من مكتبه الخاص خارج السجن ومُزيلة بتوقيعه داخله.
أبو وردة ينتظر تحت الطبع كتاب «أشواق خلف القضبان» راصدًا فيه حالة الحب والعشق عند الأسرى ووسائل تعبيرهم عن حبهم فأحيانا يستخدمون النحت، (ينحتون على الصابون)، والرسم، والشعر، والنثر.
وعن وضع الصحفيين المعتقلين، قال «فى السنوات الأخيرة أصبح عددهم حوالى 20، توجه لأغلبهم تهم التحريض عبر (فيسبوك) ويعتقلون إداريًا، كما يعامل الاحتلال كل الصحفيين كأنهم فلسطين، لا يميز بينهم وبين العامة».
كتاب (بصمات فى الصحافة الاعتقالية)، المرشح ليكون أحد المراجع الأكاديمية بكليات الإعلام الفلسطينية، يقع فى 232 صفحة من إصدار (المكتبة الشعبية ناشرون-نابلس)، يتضمن الجزء الأول منه فصولًا حول مفهوم الصحافة الاعتقالية وظيفتها ومميزاتها ومعوقاتها وأهمية تحويلها إلى مرجع أكاديمى وظروف البيئة الاعتقالية وهندستها، مستعينًا بأحد المعتقلين، وكان وزير الأشغال العامة الفلسطينى الأسبق، وكذلك الأشكال الصحفية الممارسة بالسجن، وجهود الأسرى للحصول على الأخبار والمعلومات، وأركان المادة المتنوعة والمتداولة وأساليب الاحتفاظ بالمادة المكتوبة بالسجن، وأخبار قصص النجاح لأحد الأبناء أو استقبال مولود جديد واستقبال الأعياد والمآتم وتأثيره على المعتقلين.
وللمكتبة الشعبية «ناشرون» أحد أقدم مكتبات نابلس، التى تأسست عام 1972 ونشرت كتاب أبو وردة، قصة أخرى، لأحد طلاب جامعة النجاح الوطنية، كلية الإعلام، الأسير الكاتب والروائى باسم خندقجى، الذى يواجه تنفيذ حكم بثلاث مؤبدات مدى الحياة، منذ عام 2005 والذى أصدر خلال فترة اعتقاله ديوانى شعر، طباعة بيروت، هما «طقوس المرة الأولى» و«أنفاس قصيدة ليلية» ورواية «مسك الكفاية» التى تترجم حاليًا للفرنسية ورشحت لجائزة الشارقة وتحت الطبع روايتى «نرجس العزلة» و«أنفاس الأرض المخذولة». سلطة السجن عزلت باسم بسبب رواية «مسك الكفاية» لثلاثة أشهر وغرامة تقدر ب7 آلاف جنيه ومنع من الزيارة ومنع من دخول الكتب إليه.
الكاتب والشاعر يوسف خندقجى شقيق باسم، وهو أحد المسئولين عن المكتبة، قال إن باسم أنشأ «صندوق دعم أدب الأسرى داخل السجون»، وتبرع بجزء من مخصصاته المالية «حوالى 40 ألف شيكل» لدعم الصندوق، وأنتجوا حتى الآن 12 مخطوطة للأسرى وُزِعوا على كل مكتبات فلسطين وفى أراضى 48 والأردن ومعرض عمَان الدولى للكتاب، وقال يوسف «أتمنى أن تترجم وتوزع فى إسرائيل لأن أدب الأسرى أدب واقعي، الأسرى يكتبون عن واقعهم داخل السجن؛ لكن وزارة المعارف الإسرائيلية لن توافق على ذلك. هناك بعض النشطاء اليساريين فى الداخل الإسرائيلى حاولوا ترجمة مخطوطات الأسرى إلى العبرية وتعرضوا لانتقادات من حكومة نتنياهو اليمينية المتشددة».
تحتار سلطات الاحتلال فى كيفية خروج الأعمال الأدبية للأسرى، رغم تشديد الرقابة عليهم، الأمر كشفه لنا خندقجى قائلًا «الأعمال تخرج فيما يسمى الكبسولة، وهى ورقة تكتب فيها أجزاء من النصوص للأدباء الأسرى بخط صغير جدًا أحيانا نقرأه بعدسة مكبرة وتظل تثنى حتى تصبح فى حجم نصف عقلة من الإصبع، مرات يبلعها الأسرى المحررون، ومرات تخرج بطرق أخرى لا أستطيع ذكرها».
من بين أعمال الأسرى وأحدثها هى رواية «الأسير 1578»، وهى للأسير هيثم جابر ومحكوم عليه ب33 عامًا قضى منهم 13 عامًا، تعرض جابر لعدة ملاحقات أمنية من سلطة الاحتلال. ورواية «تحت عين القمر» للأسير معتز الأيمونى محكوم عليه ب6 مؤبدات. ورواية «خلف الخطوط» للأسير عمار الزبد محكوم عليه ب26 مؤبدًا. أما عن آخر روايات الأسير باسم، قال شقيقه «أرسلها لنا فى 24 رسالة لما طبعتها عالكمبيوتر طلعت 600 صفحة».
وأوضح خندقجى أن المكتبة أغلقت مرتين، وأصدر الحاكم العسكرى الإسرائيلى سنة 1987 أمرًا بإغلاقها 3 أشهر، وناقش الكنيست هذا الأمر، بسبب نشرهم لرواية أرض الميعاد للكاتب التشيكى يوروكلسنكوف، وتدور قصتها حول شاب يهودى جاء سنة 1942 مرغمًا عنه عبر السفينة وأوهموه أن فلسطين هى أرض الميعاد ليصل ويكتشف العنصرية اليهودية ليست تجاه العرب، بل اليهود أيضًا.
ولفت إلى أن مكتبة (ناشرون) زارها الروائى الجزائرى واسينى الأعرج، وطبعت له المكتبة رواية «مملكة الفراشة»، والتى خصص عائدها لدعم صندوق أدب الأسرى، كما زارها الروائى الكويتى سعود السنعوسى مؤلف رواية (ساق البامبو)، والروائى الفلسطينى المقيم بالأردن إبراهيم نصر الله.