قصة شاب صعيدى «يتذوق » كل أصناف النساء فى الريف والحضر إذا اتخذنا قطاعًا طوليًا من حياة شخص ما، ووزعنا محطاته على العالمين، فبالتأكيد سينال كل منهم نصيبًا، إذ انفعالات الإنسان ثابتة باختلاف مثيراتها، وتتبادل الاستحواذ على وعيه بحسب الموقف.. هذا خلاصة مزيج يخطر على بالك إذا فرغت من قراءة فلسفة باروخ إسبينوزا وبخاصة كتابه «علم الأخلاق»، ثم قرأت مقولة ألبرت أينشتاين «الله لا يلعب النرد». ماذا إذا استطاع روائى أن يرسم هذا القطاع الطولى المنشود، ويمررك على هذه المحطات واحدة واحدة، بدقة وبداهة خيالية ومن الخيال؟ نعم، فهذا هو السيد شحاتة السيد، فى روايته الأولى «فتاة الله»، يرصد محطات بطله «منعم» منذ أن كان طفلًا، فى النوع الأعقد من العلاقات مع العالم.. مع المرأة، ذلك الكائن الذى يسبق الجميع بحدسه، ويتأخر طواعية قبل خطوط النهايات فى أى موقف، الكائن الذى يقرر، ومع ذلك يجعلك تختار تنفيذ القرار وأنت تظن أنك أنت الذى اتخذته. أى شجاعة تلك التى دفعت بالسيد شحاتة إلى اقتحام عالم المرأة، من خلال رجل، وأى رجل؟ إنه رجل وسيم، غير أنه فقير من إحدى قرى أسيوط، وهو أيضًا يتيم وبكف مشلولة. لكن هذه الكف تتحدى فلسفة القوة التى حاول فريدريك نيتشه ترسيخها، فبطل الرواية المشلول يأسر النساء بوسامته الفاتنة من ناحية، ونساء الرواية من ناحية أخرى يخرجن ألسنتهن لهذا الفيلسوف بإثباتهن أنهن قادرات –بالفطرة- على إدارة الأمور والتحكم بها، ومن بين هذه الأمور، الرجال. عزيزى الرجل، انظر لحالك، أو على الأقل راجع ذكرياتك، فقد تعاملت مع واحدة من هؤلاء النسوة اللاتى أوقعن ب«منعم» الذى ظن أنه أوقعهن فى شباكه، وأنتِ أيضًا عزيزتى المرأة، تأمليهن جيدًا، فأنت ولا شك واحدة منهن، أو ربما أنتِ كلهن. «منعم» الطفل الوسيم، وقع فى غرام «ميرفت» ذات الجسد الفائر، والجرأة الموروثة من أمها الغجرية بائعة الزبد والجبن، وخاتنة الإناث، التى تعلم أن لابنتها جمالاً يتبدى فواكه تسر الناظرين وتثيرهم، وتقرر بلا مواربة أن تستثمر فى هذه الفواكه مثلما تستثمر فى منتجات الحليب، وهو ما علمته الفتاة ونفذته ببراعة على مراحل انتهت بتوريط البطل فى الزواج بها على رغم شكوكه بشأن سمعتها، وكيف لا؟ وقد كانت التوريطة عبارة عن علاقة جنسية فى الخفاء، لم تكن تمت حين تحولت فى دقائق إلى فضيحة بشهود أحضرتهم «أم ميرفت»، لتحولهم إلى شهود على زواج فورى ل«منعم» ب«ميرفت» التى فاجأت زوجها بأنها ليست عذراء فى ليلة الزفاف. «آمال» نموذج آخر للفتاة التى تجيد استخدام أسلحتها لاجتذاب «منعم»، وهو طالب فى معهد تجارى بالقاهرة، فهى التى بادرت بالتعرف إليه ثم تقديمه إلى أسرتها كزميل متفوق، تلك الأسرة التى توفر له كل سبل الزواج ب«آمال» من دون التصريح برغبتهم فى ذلك، فالأم تحتويه وتلح عليه لزيارتهم، والأب يمنحه عملًا فى مكتب المحاسبة الذى يمتلكه، والبنت نفسها لا تتركه يحتاج شيئًا، حتى المواصلات، فسيارتها تحت أمره فى أى وقت، لكن قلب «منعم» لم يقع تحت أمرها، وإن كانت نجحت فى اجتذاب أهل فارسها إلى صفها من دون أن تراهم أو تتحدث مع أحدهم، وبالفعل لمّحوا وصرّحوا له برغبتهم فى أن تكون هذه الفتاة هى زوجته، خصوصًا أن لديها شقة فى القاهرة، غير أن الضغط يولد الانفجار، فتحول البطل من اللاحب إلى الكراهية، تجاه الفتاة التى اعتبرها لا ترى فيه إلا زوجًا مستقبليًا وتعمل على توريطه، بينما كان هو يذهب برجليه إلى توريطة «ميرفت». «مدام رغدة» صاحبة السكن الذى استأجره «منعم» فى القاهرة، كانت تصر على أن تبدو «سيدة فاضلة» خصوصًا أنها فى العقد الرابع من عمرها، وليس من رجل فى حياتها، ويبدو أنها أكثر تصالحًا مع نفسها من أن تتخذ زوجًا، فها هو البطل أمامها، وها هى تبدى له اهتمامًا ليس من ضروريات استضافة المستأجرين، ولم يقف الأمر عند غسل ملابسه وكيها، ولا حتى عند الدعوات إلى الطعام والشاى، فامتد كنهر، ماؤه عطاء جنسى، وضفتاه ذراعان تحتويان روح «منعم» وعقله، ومداه أفق من البراح، يطير فيه صاحبنا ويبتعد وقتما شاء ويعود إلى الماء والابتلال وقتما شاء، غير أن التحليق فى الأعالى يجعل الأشياء تبدو أصغر على الأرض، والطير إن لم يكن مربوطًا فإن احتمالات عودته تكون قليلة، إن لم تكن منعدمة. فى الإسكندرية دائمًا تكون الحياة مختلفة، ربما لأن البحر باتساع رقعة مائه وفضاء سمائه، حاضر فى وجدان جيرانه، لذا كانت مجاورة البحر ملاذ «منعم» من ضيق مسافات القاهرة وضيق نفسه بأسيوط، غير أن المرأة هى المرأة، ووسامة البطل لا يغيرها مكان أو زمان، فكان من الطبيعى والحال هكذا، أن تقع «ناهد» فى غرام البطل منذ اللقاء الأول فوق سطح البناية التى يتجاوران فى غرفتين على سطحها، ومنذ اللقاء الثانى، بدأت فى مشاغلته ومحاولة إغراقه فى بحرها الخاص، غير أن أنفاس صاحبنا لم تكن لتساعده على الغوص، فقد كانت تتقطع منذ أن رأى بين لقاءى «ناهد»، سحر جمال صديقتها وشريكتها فى السكن وزميلتها فى العمل «سلمى».. أو «فتاة الله». من بين كل من رآهن واشتهاهن أو اشتهينه، أو حتى أراد لهن أولياء أمورهن اقتناص «منعم»، كمدير صاحبنا فى العمل الذى أراد له الزواج بابنته –كانت «سلمى» هى الوحيدة القادرة على ملء قلبه وعقله وخياله، فإلى جانب جمالها الفاتن الرقيق، وأنوثتها الطاغية، كانت ذات عقل راجح ملىء بالكتب، وقلب دافئ عامر بالمحبة.. الإلهية. إنها منحته جرعة مضاعفة من الدهشة والسحر، لم تكن تشوبها شائبة غير طبيعة عملها التى تصر هى وصديقتها «ناهد» على إخفائها عن «منعم»، الذى اكتشف هذا العمل مصادفة عندما كان مدعوًا إلى سهرة فى أحد كباريهات عروس البحر المتوسط، ليرى «الإمبراطورة» التى يتحدث عن جمالها وحسن صحبتها الجميع، ولاسيما صديقه الصدوق «حمودة». «الإمبراطورة» إذن هى «سلمى»، تعمل ما يسمى «ريكلام»، غير أنها لا تسمح لأحد بأن يلمسها، وهو ما لم يقتنع به «منعم» بعد محاولات كثيرة من «سلمى»، التى أحبته ووعدته بأنها لن تذهب إلى العمل مرة أخرى، وأخلفت بعد خطبتهما، أو هكذا ظن صاحبنا، عندما تتبعها ذات مرة هى و«ناهد» حتى رآها بعينيه وهى تدخل إلى الكباريه، ليجن جنونه ويقرر أن يعاملها كعاهرة، ويحاول اغتصابها جسدًا، ليجد نفسه بلا حول ولا قوة لمجرد الاقتراب منها، فيبتعد مذهولاً، وتغادره هى بلا رجعة إلى الخارج، بعد أن تكون أخرجت لسانها عن آخره لفلسفة نيتشه المبنية على «موت الإله». لم يكن «منعم» يملك إلا صورة ضوئية لها، يخرجها بين الفينة والأخرى، ليستعيد ذكرى هذه الفتاة التى أسرته بجمالها الموروث من أمها الإيطالية، ولباقتها التى اكتسبتها من مدرستها الفرنسية، واتساع روحها الطبيعى كمسلمة من أب يهودى وأم مسيحية، وهو إسقاط لا يخفى على أحد، وإن كان المؤلف السيد شحاتة لم يقدمه بشكل فج وسخيف، ما يشير –بجانب لغته الحوارية والسردية العبقرية- إلى براعة تتجاوز حتى الدهشة من كون هذا العمل هو الأول للروائى. بين ندم «منعم» واغترابه، كانت وسامته تفعل أفاعيلها –أو قل فعلت من زمن- فى السيدة «سميحة» زوجة الأستاذ «أمين»، وكيل العمارة التى كان يسكن فوق سطحها، والآن أصبحت سميحة أرملته وورثت عن الفقيد الذى كان يكبرها بأعوام كثيرة، ثروة طائلة، ولم يعد ينقصها إلا أن تعوض ما فاتها مع رجل، وها هو منعم يستجيب ويسلم لامرأة تملك –باستثناء الثقافة- كل شىء، بما فى ذلك السوبر ماركت الذى جعلت زوجها الجديد شريكًا فيه، بما أنه أصبح شريكًا جيدًا فى الفراش. الذى قال قديمًا «لا تضع البيض كله فى سلة واحدة»، ربما لو عاش فى زماننا لكان حدد معنى السلة ب«البورصة»، التى وضع فيها «منعم» جميع أمواله، مثلما وضع ماضيه وحاضره ومستقبله بين يدى «سميحة»، وعلى قدر الصعود فى العلاقتين، كان الهبوط قويًا، فخسر ماله وخسر زوجته، التى طلقته بعد أن أذلته وأهانته أمام نفسه قبل الناس، ليعود إلى تتبع الخيط الإلهى الذى منحته «سلمى» طرفه قبل أن تغادر مصر، فيسأل عن «ناهد» ويصل إليها ويعرف منها أنها حبلت من عمدة بالبحيرة تنكر لها قبل أن تذهب معها «سلمى» فى اليوم إياه إلى الكباريه لتقابله وتقنعه بأن يتزوجها ويصلح خطأه وهو ما قد كان، فيزداد «منعم» حسرة على حسرة لفقده «سلمى»، ثم يبدأ رحلة فى أمنياته للوصول إلى «فتاة الله».