تشكيل هيئة مكتب نقابة أسنان القليوبية    نقيب الفلاحين يعلن دعمه لاتحاد القبائل العربية بقيادة العرجاني    إحتفاء بذكرى ميلاده..محافظ الشرقية يؤدى صلاة الجمعة بمسجد الدكتور عبدالحليم محمود في بلبيس    الملتقى الأول لشباب الباحثين العرب بكلية الآداب جامعة عين شمس    إزالة حالة تعدي على أرض زراعية بقرية الفاوية في قنا    أسعار البصل اليوم بالمحافظات.. انخفاض في سعر الكيلو وتوقعات بالمزيد    حملة بحي شرق القاهرة للتأكد من التزام المخابز بالأسعار الجديدة    محافظ كفر الشيخ: انتهاء أعمال رصف شارع المعهد الديني ببلطيم بطول 600    «المشاط»: 117 مشروعًا لدفع مشاركة المرأة وتمكينها اقتصاديًا واجتماعيًا    وزيرة التخطيط: 7.7 مليار جنيه استثمارات عامة لمحافظة الأقصر خلال 23-2024    وزيرة الهجرة تشهد احتفال «يوم أوروبا» وتؤكد: علاقات متميزة وتعاون وثيق بمختلف المجالات    محافظ بني سويف يوجه بمتابعة استمرار التسهيلات في تلقى طلبات التصالح بالقانون الجديد 187    تحذير شديد من الأمم المتحدة بشأن الأوضاع في غزة    الاتحاد الأوروبي يدين الهجوم على مباني الأونروا في القدس الشرقية    أوكرانيا: روسيا بدأت هجوماً برياً في منطقة خاركيف    قصة غلاف| «تايم» ترصد انتفاضة الجامعات الأمريكية ب«عدسة الصحفيين الطلاب»    فانتازي.. أفضل 4 لاعبين ذوي ملكية منخفضة للجولة المزدوجة (DGW37)    أعضاء مجلس الزمالك يستقبلون المنسق الأمني لمباراة نهضة بركان    محلل أداء منتخب الشباب يكشف نقاط قوة الترجي قبل مواجهة الأهلي    بيرسي تاو يحصد جائزة أفضل لاعب في اتحاد دول جنوب إفريقيا    ضبط 40 شيكارة دقيق مدعم في السوق السوداء بقنا    إصابة 6 أشخاص في حادث انقلاب سيارة ميكروباص بالطريق الأوسطي    تشييع جثمان عقيد شرطة ضحية تصادم سيارة مع جمل ببني سويف    مشاجرة بين عائلتين بالأسلحة البيضاء وإصابة شخصين بالفيوم    ضبط لحوم وكبدة غير صالحة للاستهلاك البشري بأحد المطاعم في الفيوم    حفاران حطما الجدران.. كيف ساهمت مياه الشرب في إخماد حريق الإسكندرية للأدوية؟- صور    ما حكم إيداع الأموال في البنوك وأخذ الفوائد؟ مفتي الديار المصرية يجيب    بالصور- جامعة المنيا تحصد 4 مراكز متقدمة في منافسات مهرجان "إبداع"    أحمد العوضي.. "ياسمين خير حبيبة وزوجة"    سنوات الجرى فى المكان: بين التلاشى وفن الوجود    خطيب الجمعة ب "الأزهر": الحضارة الإسلامية حوربت عبر تشكيك المسلمين في تراثهم    الأدلة 60 صفحة.. توضيح مهم لمفتي الجمهورية بشأن التعامل مع البنوك    الرعاية الصحية: تقديم 16 مليون خدمة طبية بالمستشفيات والوحدات التابعة    عادات يومية للتحكم في نسبة السكر بالدم.. آمنة على المرضى    وزير الري يلتقى المدير الإقليمي لمكتب اليونسكو بالقاهرة    الكشف الطبي بالمجان على 1282 مواطنًا في قافلة طبية بدمياط    دعاء الجمعة للمتوفي .. «اللهم أنزله منزلا مباركا وأنت خير المنزلين»    الجيش الإسرائيلي و"حزب الله" يتبادلان القصف    انطلاق فعاليات القوافل التعليمية لطلاب الثانوية العامة بالشرقية    في محكمة الأسرة.. حالات يجوز فيها رفع دعوى طلاق للضرر    الاستغفار والصدقة.. أفضل الأعمال المستحبة في الأشهر الحرم    رحلة مبابي في باريس تنهي بمكالمة الخليفي    هنا الزاهد وشقيقتها فرح يرقصان في حفل زفاف لينا الطهطاوي (صور وفيديو)    رد فعل محمد عادل إمام بعد قرار إعادة عرض فيلم "زهايمر" بالسعودية    تجنب 4 أطعمة لتقليل خطر الإصابة بالسرطان    الإسكان تناقش آليات التطوير المؤسسي وتنمية المواهب    463 ألف جنيه إيرادات فيلم فاصل من اللحظات اللذيذة في يوم واحد بدور العرض    حماس: الكرة الآن في ملعب الاحتلال للتوصل لهدنة بغزة    فضل يوم الجمعة وأفضل الأعمال المستحبة فيه.. «الإفتاء» توضح    نشوب حريق بمصفاة نفط روسية بعد هجوم أوكراني بالمسيرات    شخص يطلق النار على شرطيين اثنين بقسم شرطة في فرنسا    لمواليد 10 مايو.. ماذا تقول لك نصيحة خبيرة الأبراج في 2024؟    الناس بتضحك علينا.. تعليق قوي من شوبير علي أزمة الشيبي وحسين الشحات    3 فيروسات خطيرة تهدد العالم.. «الصحة العالمية» تحذر    مايا مرسي تشارك في اجتماع لجنة التضامن الاجتماعي بمجلس النواب لمناقشة الموازنة    رد فعل صادم من محامي الشحات بسبب بيان بيراميدز في قضية الشيبي    اللواء هشام الحلبي يكشف تأثير الحروب على المجتمعات وحياة المواطنين    نهائي الكونفدرالية.. تعرف على سلاح جوميز للفوز أمام نهضة بركان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عملية «الابن البار » لتجنيد مبارك لحساب المخابرات السوفيتية
نشر في الصباح يوم 23 - 10 - 2013

المحفوظة فى الأرشيفات الرسمية المحظور الاطلاع والتعامل عليها للعامة فى دهاليز خزائن الأجهزة السيادية السرية للاتحاد السوفييتى والولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة.
حصلت عليها بالطرق والوسائل الرسمية فى شكل تصريحات مرقمة باسمى وبياناتى الشخصية وما سمح لى من تلك الأسرار ليس تلميعًا للرئيس الأسبق «محمد حسنى السيد مبارك».
كما أنه ليس انتقاء من بين الوثائق للهجوم الأعمى عليه بل هى تفاصيل غير مسبوقة أكشفها عارية وأمامى ميزان الانصاف يمنعنا جميعًا أن ننكر على مبارك بطولاته، وفى الوقت نفسه لن يصح مهنيًا أن نتغاضى له عن سقطاته المسجلة فى ذات الوثائق.
وكلها حقائق تاريخية وسياسية وعسكرية فى شكل حلقات أسرار تتابعون فيها مشاهد خفية من حياة مبارك الشاب، الطيار، القائد، السياسى والإنسان أو بالأحرى كما أفضل نعتها بأسرار مبارك الطيب والشرس والقبيح.

ولد «محمد حسنى السيد مبارك» الجمعة الموافق 4 مايو عام 1928 فى قرية كفر مصالحة التابعة لمحافظة المنوفية لعائلة فقيرة تكونت من خمسة أطفال هم محمد وفوزى وعصام وسامية وسامى وأب عمل موظفًا بسيطًا فى محكمة شبين الكوم بالمنوفية وأم قروية عظيمة مكافحة هى السيدة «نعيمة محمد مرسى» المتوفاة بتاريخ 22 نوفمبر 1978.
تخرج مبارك الشاب الحالم بمستقبل كبير فى القوات المسلحة المصرية شهر فبراير 1949 بحصوله على بكالوريوس العلوم العسكرية برتبة الملازم ثان فى سلاح المشاة ليلتحق باللواء الثانى الميكانيكى.
حتى أعلنت القوات الجوية عن قبول دفعة خاصة من خريجى الكلية الحربية فتقدم هو لينجح مع 11 طالبًا فى الالتحاق بالكلية الحربية ليحصل بعدها على بكالوريوس علوم الطيران من الكلية الجوية فى 12 مارس 1950.
ومن يومها ونحن نتعامل مع الطيار الذى تحول إلى بطل عظيم ثم رئيس مخلوع ثم متهم فى كارثة تاريخية ستظل حقيقتها عند الله.
والآن إلى أسرار مبارك السوفييتية التى ننفرد بنشرها كما سجلتها ملفات أرشيف «عظيم السرية» لجهاز الاستخبارات السوفييتية KGB.

تأسست «لجنة أمن الدولة» المعروف أنها الكيان الأصلى لجهاز الاستخبارات السوفييتية KGB بتاريخ 13 مارس 1954، وعين مجلس السوفييت الأعلى الجنرال «إيفان أليكساندروفيتش سيروف» كأول مدير للجهاز الروسى فشغل منصبه بداية من 13 مارس 1954 وحتى 8 ديسمبر 1958.
ثابت فى الوثائق السوفييتية الرسمية أن مدير الجهاز الروسى الأول إيفان أليكساندروفيتش سيروف الشهير بلقب «إيفان السفاح» بسبب سياساته الدموية العنيفة هو مؤسس جهاز الاستخبارات السوفييتية KGB الذى تم حله بتاريخ 6 نوفمبر 1991، وتوقف نشاطه نهائيًا بتاريخ 3 ديسمبر 1991.
يتجسد أهم ما وضعه إيفان سيروف - السفاح - فى خطة «الستار الحديدى» الاستخباراتية التى رسمها للدفاع عن النظام الشيوعى الشمولى السوفييتى ومصالحة فى دول العالم عامة والشرق الأوسط خاصة.
شملت خطة سيروف أساليب وأفكار إدارة عمليات ووسائل تجنيد عملاء كانت جديدة وغير مسبوقة وقتها تضمنت تقنيات اعتمدت على نظام الزراعة العميقة للعملاء داخل أنظمة الدول التى كانت هدفًا للاستخبارات السوفييتية KGB،
من تلك الخطط الهجومية التى ابتدعتها الاستخبارات السوفييتية KGB تحت إدارة الجنرال إيفان سيروف خطة عمليات استخباراتية عملاقة أطلق عليها الاسم الكودى عمليات «الابن البار».
للتوضيح قبل الدخول للتفاصيل عملية - عمليات - «الابن البار» لم تحمل الاسم كوصف لعملية شخص أو عميل بعينه بل قصد من ورائها أن كل عميل مخلص للاتحاد السوفييتى ولجهاز الاستخبارات السوفييتية KGB يتم زرعه عميقًا فى نظام دولته يصبح بالضرورة «الابن البار» للاتحاد السوفييتى.
ببساطة اعتمدت خطط عمليات «الابن البار» على جمع المعلومات الدقيقة عن أجيال شباب قادة الدول التى توجد على أهداف الاتحاد السوفييتى بالعالم تمهيدًا لبحث إمكانية الاتصال بالمختارين منهم بغرض تجنيدهم، ومن ثم زرعهم عميقًا فى أنظمة دولهم انتظارا للحظة المناسبة بالنسبة لموسكو للدفع بهؤلاء إلى سدة الحكم لتولى المناصب القيادية فى بلادهم.
أتوقف مضطرًا قبل الدخول فى أسرار عملية «الابن البار» لشرح مصطلح «العميل النائم» أو العميل «الخلد» - التسمية المهنية الدولية - The Mole - التى نفذتها الاستخبارات السوفييتية KGB فى مصر بكثافة داخل النظام الجمهورى لكل من الزعيم جمال عبد الناصر والرئيس محمد أنور السادات.
استخدم مصطلح «العميل النائم» - The Mole - أو «الخلد» لأول مرة فى كتاب «تاريخ بريطانيا فى عهد الملك هنرى السابع» لمؤلفه السير «فرانسيس باكون».
وهو فيلسوف ورجل دولة ومؤلف ولد فى بريطانيا بتاريخ 22 يناير 1561 وتوفى بتاريخ 9 إبريل 1626 بعدما خدم طيلة حياته لدى البلاط الملكى البريطانى كنائب عام ومستشار بدرجة لورد.
وللتوثيق أعاد الجاسوس البريطانى «جون لى كارى» تقديم ذات المصطلح للعامة عام 1974 عندما نشر روايته الجاسوسية الشهيرة «المصلح والخياط والجندى والجاسوس».
كان جون لى كارى قد سجل بشكل توثيقى أن الاستخبارات السوفييتية KGB هو أول جهاز معلومات فى العالم طور وأعاد استخدام مصطلح «العميل النائم» فى عمليات تجسس عميقة أطلق عليها الجهاز الروسى اسم عمليات «الابن البار».
وحدد الجاسوس البريطانى العجوز جون لى كارى يومها أن الاستخبارات السوفييتية KGB نجحت فى انتقاء وتجنيد وزراعة المئات من «العملاء النائمين» فى أركان أنظمة حكم ومؤسسات العشرات من الدول بينها دول عربية رئيسية مثل مصر.
وأشار جون لى كارى أن عملية زرع «العميل الخلد» - النائم - عملية معقدة للغاية تحتاج لأعوام طويلة حتى تحقق كامل أهدافها عندما يتمكن العميل النائم من تقلد المناصب المفصلية فى مؤسسته أو نظام دولته بما يتيح له حرية الاطلاع على أخطر الملفات وأكثرها سرية تمهيدًا لنقلها إلى الاتحاد السوفييتى.
وكنموذج موثق تأتى عملية الكشف عن قضية عملية «الشخوص الخمس» فى بريطانيا كأهم دليل مهنى على حقيقة عمليات «العملاء النائمون» فى عوالم الاستخبارات.
حيث نجحت الاستخبارات البريطانية MI6 بالتعاون مع الاستخبارات البريطانية الداخلية MI5 أثناء فترة الحرب الباردة فى اكتشاف خمسة عملاء عملوا لحساب الاستخبارات السوفييتية KGB داخل جامعة «كامبريدج» - تأسست عام 1209 - البريطانية العريقة التى تعد من أقدم جامعات العالم الحديث.
يذكر أن الحرب الباردة يؤرخ لها بداية من 16 إبريل 1947 عندما أطلق «برنارد باروش» مصطلح الحرب الباردة لأول مرة عندما كان مستشارًا للرئاسة الأمريكية للشئون الاقتصادية علمًا أن الحرب الباردة انتهت رسميًا مع سقوط الاتحاد السوفييتى فى 26 ديسمبر 1991.
والغريب أن الاستخبارات البريطانية المتعاونة فيما بينها MI5/MI6 فوجئت أن الخمسة عملاء تمت زراعتهم عميقًا قبل عشرين عامًا من اكتشافهم، بمعنى أنهم زرعوا فى بريطانيا منذ أن كانوا طلابًا متفوقين فى جامعة كامبريدج.
وأن الخمسة تولوا عقب تخرجهم وظائف قيادية مرموقة فى الجامعة وأشرف بعضهم على إدارة قسم العقول الإليكترونية التابع للبحوث العلمية والمعلوماتية الأكاديمية العاملة فى بريطانيا لحساب الحكومة البريطانية.
كانت المهمة الموكلة للخمسة عملاء هى بث الأخطاء الاستراتيجية وتسميم وتضليل معلومات الأبحاث البريطانية الحكومية بمعلومات مغلوطة قامت الاستخبارات السوفييتية KGB بمدهم بنوعياتها وطرق زراعتها فى أنظمة المعلومات الرسمية البريطانية والغربية.
وفى جميع المصادر الاستخباراتية العلمية يوصف «العميل النائم» بأنه أخطر أنواع العملاء والجواسيس نظرًا لاستحالة التوصل إليه.
وأن ذلك النوع من العملاء يعتبر الكابوس الأكبر لأفرع مكافحة التجسس لدى أجهزة الاستخبارات المختلفة فى العالم بغض النظر عن إمكانياتها.
وبمناسبة الإشارة لجهاز «MI6» للأهمية ينقسم جهاز الاستخبارات الملكية البريطانية إلى فرعين كليهما تأسس عام 1909.
الأول: جهاز Military Intelligence, Section 5 المعروف بالاسم المختصر MI5 وهو المسئول عن حماية الأمن القومى الملكى البريطانى فى الداخل، وكان أول رئيس لهذا الجهاز هو السير «فيرنون كيل» الذى شغل منصبه فى الفترة من عام 1909 حتى عام 1940.
أما الجهاز الثانى: Military Intelligence, Section 6 المعروف بالاسم المختصر MI6 فهو المسئول عن جمع المعلومات وتشغيل العملاء وحماية الأمن القومى الملكى البريطانى فى الخارج، وكان أول رئيس له السير «مانسفيلد سميث» الذى شغل منصبه فى الفترة من عام 1909 حتى عام 1923. أعود إلى التفاصيل وقد أصدر الجنرال إيفان سيروف مدير الاستخبارات السوفييتية KGB بشكل رسمى أوامره للجنرال «أليكساندر ميخائيلوفيتش ساخاروفسكى» كى يبدأ على الفور فى إعداد قوائم دقيقة لانتقاء الممكن تجنيدهم لخدمة عمليات «الابن البار» السوفييتية فى عدة دول بالعالم كان بينها مصر.
الثابت أن الجنرال أليكساندر ساخاروفسكى شغل منصب رئيس فرع عمليات التجسس الخارجى لدى الجهاز الروسى فى الفترة من عام 1956 إلى عام 1971.
لم تكن العملية بالبسيطة ولا باليسيرة، وكان المطلوب جمع ملايين المعلومات من داخل أنظمة الدول الهدف عن بيانات وتواريخ ووقائع وتفاصيل حياة كل مرشح محتمل من وجهة نظر الاستخبارات السوفييتية KGB
قامت عمليات «الابن البار» الروسية على أسس رئيسية لم تختلف كثيرًا من عملية لأخرى من بين تلك التى نفذتها الاستخبارات السوفييتية KGB فى مصر فى الفترة الممتدة من ديسمبر 1954 وحتى مايو 1971.
التحقيق فى معظم عمليات «الابن البار» الروسية يثبت أن جهاز الاستخبارات السوفييتية KGB نفذ ما يطلق عليه الاتصال الأول مع الشخصيات المصرية التى وقع عليها الاختيار لتجنيدها أثناء تواجدهم فى العاصمة السوفييتية موسكو.
التى توافدت عليها النخبة المصرية الشابة فى تلك الفترة الزمنية فى إطار بروتوكول التعاون المصرى - السوفييتى المشترك فى مجال البعثات والمنح العلمية والعلاقات التجارية والثقافية والسياسية والعسكرية المتميزة بين القاهرة وموسكو.
ويؤكد تقرير الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA الصادر بتاريخ 26 يوليو 1972 فى 12 صفحة تحت الترقيم الأمريكى الحكومى الرسمى OER - 5735 تحت بعنوان «حقائق المساعدات السوفييتية إلى مصر».
أن جزءا بارزا من تلك المساعدات والعلاقات الروسية المتميزة استغلتها الاستخبارات السوفييتية KGB للتمويه على عملياتها فى مصر، كما قدم التقرير نفسه معلومات دقيقة حددت تاريخ بدء المساعدات السوفييتية الرسمية لمصر مع بداية عام 1956 بقيمة كلية قدرت بنحو 1.2 مليار دولار أمريكى، مول بها الاتحاد السوفييتى مشروعات مصرية عملاقة خاصة فى مجال الطاقة والزراعة والرى والصحة والصناعات الثقيلة والثقافة والتعليم الذى ركزت عليه موسكو بهدف تحسين صورتها وعمل دعاية منهجية شيوعية وسط مختلف شرائح المجتمع المصرى.
لم يقتصر حجم المساعدات الروسية فى مجال التعليم على مجرد دفع الأموال لتحسين التعليم المصرى بل وفر الاتحاد السوفييتى للمتفوقين المصريين فى جميع الجامعات والمعاهد المدنية والعسكرية المنح المجانية للدراسة وعمل الأبحاث والتسجيل للشهادات المختلفة فى الجامعات والمعاهد الروسية العليا.
وبالتحقيق نجد أن عمليات «الابن البار» الروسية قد نشطت فى مصر بشكل غير مسبوق بداية من عام 1959 مع الإشارة التوثيقية أن أولى تلك العمليات بدأت فى القاهرة فعليًا مع مطلع عام 1958.

فى هذا العام أبلغت الكلية الجوية المصرية القنوات الشرعية السوفييتية أن هناك دفعة مصرية جديدة ستصل إلى موسكو فى بداية شهر فبراير 1959.
وأن التدريب سيتم كالعادة طبقًا لبروتوكول تدريب الطيارين المصريين فى الاتحاد السوفييتى على الطائرات الروسية الصنع التى حصلت عليها مصر فى إطار المعونات والمساعدات العسكرية السوفييتية الخاصة تحت حكم الرئيس جمال عبد الناصر.
أرسلت الكلية الجوية المصرية مع الإخطار طبقًا للإجراءات المعتادة عددًا من أسماء الضباط والطيارين المصريين كان بينهم اسم «محمد حسنى السيد مبارك».
الذى عمل وقتها طيارًا مقاتلًا على طائرات النقل الروسية الثقيلة، وفى ذات التوقيت كان مدرجًا على لائحة معلمى الكلية الجوية المحترفين منذ عام 1950 وحتى بداية عام 1959.
فى الواقع كانت قائمة أسماء الطيارين التى أرسلتها مصر مهمة للغاية بالنسبة للاستخبارات السوفييتية KGB التى تأكدت أنها مجموعة طيارى النخبة المصرية الجوية فى منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا.
وجدت الاستخبارات السوفييتية KGB أن الفرصة سانحة لدراسة تلك الأسماء وجمع أكبر قدر من المعلومات عن أصحابها قبل وصولهم إلى موسكو للدراسة والتدريب المتقدم.
طار الأمر إلى محطة الاستخبارات السوفييتية KGB الواقعة داخل مبنى السفارة الروسية بالقاهرة مع تكليف رسمى للبدء فى جمع المعلومات بشكل مكثف عن أسماء الطيارين المصريين التى شملتهم قائمة الترشيحات دون التركيز على اسم بعينه أو تحديد أهمية محددة لأىّ منهم.
انطلق ضباط وعملاء محطة الجهاز الروسى بالقاهرة فى أركان النظام والقوات الجوية المصرية لاستخلاص المعلومات، وتحقيق أدق التفاصيل عن هؤلاء الطيارين المصريين وخلفياتهم منذ مولدهم وحتى تاريخ ترشيحهم للسفر إلى موسكو.
حقق عملاء الاستخبارات السوفييتية KGB فى مصر قدرًا من النجاح، وخلال ساعات قليلة تدفقت المعلومات الدقيقة عن القائمة المصرية المرشحة من مصادر لا يرقى إليها الشك داخل النظام المصرى كشفت أدق تفاصيل حياة الطيارين المصريين المزمع إيفادهم للدراسة والتدريب فى الاتحاد السوفييتى.
عقب وصول المعلومات المطلوبة إلى مقر جهاز الاستخبارات السوفييتية KGB فى موسكو اجتمعت غرف التقدير السريع عدة مرات بهدف ترشيح وانتقاء أحد الأسماء من قائمة الطيارين المصريين كى يتم تجنيده لحساب الاتحاد السوفييتى فى إطار عمليات «الابن البار».
كان الغرض من العملية أن يدرب الجيش الروسى المرشح بشكل محترف مع منحه المعلومات العسكرية التى تمكنه من القيام بواجبه العسكرى الجوى أفضل من أى طيار غيره مما يدفعه للترقى والتميز بين أقرانه بطريقة طبيعية.
وفى التوقيت نفسه تلعب السياسة السوفييتية دورها فى إبراز ذلك الشخص وعمل العلاقات الجيدة معه، وطرح اسمه فى المناسبات المواتية أمام القيادة المصرية العليا، حتى يظل فى بؤرة الاختيار السيادى المصرى لتولى أعلى المناصب والمراكز السياسية فى القاهرة، بشرط أن تتم جميع الترتيبات، وأن تجرى عملية إعداد وتجهيز وتلميع ذلك الشخص فى النظام المصرى فى هدوء حذر مهما استغرقت العملية من وقت وأعوام.
وأن تتم العملية بطريقة الزراعة العميقة للعملاء التى تعد من أخطر طرق التجنيد فى علوم الاستخبارات حيث يتم الدفع بالشخص المختار فى اللحظة المناسبة بطريقة مهنية - سياسية بحتة غير مباشرة أو حتى قابلة للشك، وذلك لتولى المناصب العليا فى بلاده.
وبذلك تكون أهداف العملية الروسية قد تحققت وتكون الاستخبارات السوفييتية KGB قد نجحت فى زراعة «الابن البار» فى منصب قيادى مؤثر فى النظام المصرى يستطيع من خلاله رد الجميل إلى موسكو لتنفيذ أهداف مصالح الاتحاد السوفييتى فى مصر.
طبقًا لأسرار عملية «الابن البار» اجتمع «أليكساندر نيكولاى فيتش شيليبين» المدير الثانى لجهاز الاستخبارات السوفييتية KGB فى مكتبه الواقع فى الطابق الثالث بمقر الجهاز الروسى فى 2 ميدان «لوبيانسكايا بلوشخاد» العاصمة الروسية موسكو.
مع الجنرال «أليكساندر ميخائيلوفيتش ساخاروفسكى» رئيس فرع التجسس والعمليات الخارجية لدراسة بيانات ومعلومات أسماء الطيارين المصريين المقرر وصولهم إلى موسكو للالتحاق ببرامج التدريب المتقدمة على طائرات الطرازات الجوية السوفييتية المختلفة تمهيدًا لتزويد مصر بأنواع حديثة من تلك الطائرات الروسية.
فى اللقاء كشف الجنرال «أليكساندر ميخائيلوفيتش ساخاروفسكى» رئيس فرع التجسس والعمليات الخارجية أنه يعانى من نقص فى عدد من المعلومات والبيانات الرئيسية لقائمة الطيارين المصريين، وأن التفاصيل الناقصة ستؤثر بشكل مباشر فى دقة قرار اختيار الشخص المناسب.
قام أليكساندر شيليبين مدير الاستخبارات السوفييتية KGB بالاتصال بالمارشال الروسى «روديون ياكوفلفيتش مالينوفسكى» وزير الدفاع السوفييتى الذى شغل مهام منصبه فى الفترة من 26 أكتوبر 1957 حتى 31 مارس 1967.
وفى الحوار الهاتفى طلب شيليبين من وزارة الدفاع السوفييتية التى تنسق وتدير كل المنح العلمية والدراسية العسكرية للضباط المصريين تقديم ما لديها من ملفات مهنية وشخصية لكل مصرى تم قبوله فى نظام المنح السوفييتية العسكرية فى الفترة من يناير 1959 وحتى يناير1960.
فسارع المارشال روديون مالينوفسكى وزير الدفاع السوفييتى، وأرسل على الفور إلى الاستخبارات السوفييتية KGB جميع المعلومات المتوافرة لدى وزارته فى حدود المطلوب.
وفى نفس التوقيت أرسل مكتب روديون مالينوفسكى وزير الدفاع الروسى بشكل روتينى إلى مكتب الملحق العسكرى الروسى فى القاهرة يطلب من الجهات المصرية الرسمية المعنية مد وزارة الدفاع السوفييتية بالمزيد من المعلومات عن الطيارين المصريين المقرر سفرهم إلى موسكو بدعوى أنها إجراءات روتينية ضرورية فى موسكو.
تلقى مكتب تنسيق المنح السوفييتية العسكرية التابع لمكتب الملحق العسكرى السوفييتى فى السفارة الروسية بالقاهرة بعدها بساعات قليلة البيانات الروتينية مع المعلومات الشخصية عن خلفية كل طيار مصرى أدرج اسمه فى قائمة المنحة الروسية.
تسلمت الاستخبارات السوفييتية KGB عند هذا الحد ما يلزم من معلومات للبحث والدراسة المطلوبة حول كل طيار مصرى رشح للبعثة التدريبية وأصبح قرار اختيار الشخص المناسب لعملية «الابن البار» مسألة وقت.
وقع اختيار الاستخبارات السوفييتية KGB عقب دراسة المعلومات دون تردد على الطيار المصرى «محمد حسنى السيد مبارك» بعد أن توافرت فيه معظم الشروط التى بحثوا عنها فى موسكو طبقًا لمعايير الاختيار المعتادة لتنفيذ عمليات «الابن البار» الروتينية لديهم.
الغريب أن أهم ما شدهم إلى شخصية الطيار المصرى محمد حسنى مبارك كانت خلفيته العائلية القروية البسيطة حتى أن أليكساندر شيليبين مدير الاستخبارات السوفييتية KGB داعب يومها الجنرال أليكساندر ساخاروفسكى رئيس فرع التجسس والعمليات الخارجية الذى صمم على اختيار الطيار المصرى محمد حسنى السيد مبارك متهمًا إياه بأنه انحاز لابن الشعب على حساب أسماء الطيارين المصريين الآخرين الذين كان معظمهم من أبناء العائلات المصرية الميسورة الحال أو الثرية.
غير أن أليكساندر ساخاروفسكى رئيس فرع التجسس والعمليات الخارجية المخضرم فى جهاز KGB ذو الخلفية الروسية القروية الفقيرة نفى أمام مديره أن يكون قد أسس اختياره على أسس شيوعية طبقية.
وقام ساخاروفسكى بفتح ملف الطيار المصرى مبارك وعلم بعلامة دائرية كبيرة على المعلومات التى وردت من مصادر الاستخبارات السوفييتية الموثوق بها فى مصر أن الطيار المصرى مبارك لديه خلفية فقيرة مع مشاكل أسرية عميقة.
وعندما سأله أليكساندر شيليبين مدير الاستخبارات السوفييتية KGB عن العلاقة المباشرة بين تلك المعلومات واختياره لذلك الطيار المصرى تحديدًا؟
أوضح الجنرال أليكساندر ساخاروفسكى رئيس فرع التجسس والعمليات الخارجية المسئول المباشر عن تشغيل العملاء والجواسيس المتعاونين مع الاستخبارات السوفييتية KGB حول العالم إلى رئيسه.
إن ذلك الطيار المصرى طبقا للمعلومات المتوافرة عنه وقتها من وجهة النظر السوفييتية لديه بالمنطق حب شرس للمال، كما أن المعلومات عن مشاكله الأسرية تؤكد أنه غير معنى بالعلاقات العاطفية أو الأسرية، وبالتالى لن تجد الاستخبارات السوفييتية KGB مشاكل نفسية فى عرض التجنيد عليه خدمة للاتحاد السوفييتى مقابل مساعدته على تحقيق كل أحلامه.
عندها ابتسم أليكساندر شيليبين مدير الاستخبارات السوفييتية KGB، وطلب الملف من يد الجنرال ساخاروفسكى ثم وقع عليه بالموافقة على أن تبدأ عملية «الابن البار» محمد حسنى السيد مبارك فور وصوله المقرر إلى موسكو فى فبراير 1959. طبقًا لملف الطيار المصرى المتفوق محمد حسنى السيد مبارك فهو من مواليد 4 مايو 1928 قرية «كفر مصلحة» محافظة المنوفية أتم تعليمه الثانوى بمدرسة المساعى المشكورة مدينة «شبين الكوم» محافظة المنوفية ثم التحق بالكلية الحربية عام 1947.
تخرج الطالب محمد حسنى مبارك فى فبراير 1949 فى الكلية الحربية حاصلًا على درجة البكالوريوس فى العلوم العسكرية برتبة الملازم ثان، وألحق مباشرة باللواء الثانى لسلاح المشاة الميكانيكى حيث قضى فيه ثلاثة شهور.
بعدها أعلنت القوات الجوية المصرية الملكية عن حاجتها لدفعة خاصة من خريجى الكليات العسكرية فتقدم للاختبارات الملازم ثان محمد حسنى مبارك فى صباح 2 فبراير 1949 مع 11 ضابطًا من زملائه نجحوا فى التأهل للكلية الجوية.
المعروف أن القوات الجوية المصرية الحديثة بدأت تشكيلاتها رسميًا عام 1938 لكن الكلية الجوية ككيان جوى عسكرى تابع للقوات المسلحة المصرية تأسست عقب صدور قانون إنشاء الكلية الجوية الملكية المصرية فى عام 1951.
بتاريخ 13 مارس 1950 تخرج الضابط طيار محمد حسنى السيد مبارك فى الكلية الجوية الملكية المصرية حاصلًا على رتبة الملازم أول وإجازة أجنحة الطيران العسكرية الدولية، وألحق بالخدمة فى الأسراب الجوية المصرية الأولى للطائرة البريطانية الصنع من طراز «سوبر مارين سبيت فاير».
وهى طائرة مقاتلة ذو مقعد واحد برزت فى العمليات الجوية التى دارت أثناء الحرب العالمية الثانية التى جرت أحداثها فى الفترة بين 1 سبتمبر 1939 وحتى 2 سبتمبر 1945.
قامت بأول رحلة لها بتاريخ 5 مارس 1936، وأول عرض جوى بتاريخ 4 أغسطس 1938، وخرجت من الخدمة عام 1961 وأنتجت بريطانيا منها فى الفترة من عام 1938 وحتى عام 1948 عدد 20351 طائرة.
خدم مبارك وهو طيار حديث التخرج فى منطقة العريش الجوية حتى 13 مارس 1950، عندما صدر قرار نقله إلى قاعدة مطار حلوان العسكرى جنوب القاهرة حيث بدأ مهمته كطيار مقاتل من يناير عام 1951 وحتى يناير عام 1953، فى نهاية عام 1953 نقل مبارك بسبب تفوقه مهنيًا كطيار مقاتل إلى الكلية الجوية الملكية التى تحول اسمها فى نهاية يوليو 1952 إلى الكليلة الجوية المصرية.
وانضم فيها إلى كادر المعلمين على درجة معلم مساعد ثم تدرج فى المناصب حتى أصبح مساعدًا لأركان حرب الكلية ثم أركان حرب الكلية الجوية، وفى ذات التوقيت ظل محتفظًا بمكانته كقائد سرب وذلك حتى بداية عام 1959.
خلال تلك الفترة شارك مبارك فى معارك محدودة خلال العدوان الثلاثى على مصر وقاد سربًا من الطائرات البريطانية الصنع، ونجح فى تدمير عدة أهداف للدول المعادية فى منطقة قناة السويس.
فى يناير 1959 عندما كان فى سن 31 عامًا رشح الطيار محمد حسنى السيد مبارك فى إطار برنامج التبادل العسكرى بين الجمهورية العربية المتحدة والاتحاد السوفييتى لدورة تدريبية فى «قرغيزستان» - عاصمتها مدينة بشكيك تقع فى آسيا الوسطى - على طائرات نقل روسية حديثة كانت مصر على وشك استلامها من الاتحاد السوفييتى.
وبمناسبة الإشارة إلى جمهورية قرغيزستان - حاليا - فقد كانت إحدى دول الاتحاد السوفييتى القديم استقلت عن موسكو بتاريخ 31 أغسطس 1991، واعترف بها كدولة مستقلة بتاريخ 25 ديسمبر 1991.
ومسجل أن الطيار المصرى محمد حسنى السيد مبارك عاش فى روسيا للتدريب والدراسة المتقدمة لأنظمة الطيران الروسية فى الفترة من فبراير 1959 وحتى يونيو 1961.
أمضى الطيار المصرى محمد حسنى السيد مبارك فترة الشهرين الأولين له فى الاتحاد السوفييتى فى دراسة اللغة الروسية وهى لغة تنتمى لعائلة اللغات الهندو - أوربية وتحديدًا السلافية يتحدث بها حوالى 170 مليون نسمة بالعالم.
وذلك ضمن برنامج لغوى مكثف التحق به مبارك لدى المركز الثقافى العسكرى بالعاصمة الروسية موسكو التى أقام فيها وقتها داخل النزل العسكرية التابعة للقاعدة الجوية الروسية الخامسة الشهيرة باسم القاعدة رقم 999.
قصدت الاستخبارات السوفييتية KGB فى تلك الفترة أن ينضم الطيار المصرى مبارك منفردًا على فصل معلمة اللغات الروسية «دانا ميشيلوفا» التى كانت تتقن اللغة العربية وتعمل كعميلة سرية فى ميدان العمليات الاستخبارية الخاصة فى العاصمة السوفييتية موسكو، مستغلة فى ذلك خبرتها المعلوماتية عن الشرق الأوسط وإتقانها اللغة العربية وإشرافها على البرنامج المكثف لتعليم اللغة الروسية للضباط والعسكريين والطيارين العرب الوافدين للتدريب والدراسة إلى موسكو.
كانت الضابطة دانا ميشيلوفا - وهو اسمها الحقيقى - معلمة اللغة الروسية إحدى عميلات الاستخبارات السوفييتية تمثل الطعم الذى دفع به جهاز KGB إلى محمد حسنى مبارك الطيار المصرى القروى الخلفية صاحب العادات والتقاليد المنغلقة.
امتازت دانا ميشيلوفا بالجمال المبالغ فيه والأنوثة الفياضة والجسد الرشيق بيضاء فارعة الطول قوية القوام شقراء الشعر تتحدث ثلاث لغات بطلاقة تحدثًا وكتابة هى الروسية والإنجليزية والعربية.
كانت التعليمات الواضحة إليها قبل بدء العملية أن تمنح من اليوم الأول لها فى معهد اللغات التابع للمركز الثقافى العسكرى اهتمامًا خاصًا للطيار المصرى الشاب محمد حسنى السيد مبارك.
وربما شعر مبارك بذلك، وفى نهاية أول درس عن الحروف الأبجدية الروسية تقدم الطيار المصرى القروى الشاب البالغ من العمر وقتها 31 عامًا إلى منصة الدرس، وألقى التحية والشكر بكلمة روسية كانت هى أول الكلمات التى تعلمها من معلمته الضابطة دانا وهى «سباسيبا» أى شكرًا.
فردت عليه معلمته الفاتنة الجمال وهى بملابسها العسكرية الروسية الكاملة «شكرًا جزيلًا» باللغة العربية الواضحة فضحك مبارك وأبدى سعادته بنطقها اللغة العربية، وبدأ يتحدث معها باللغة العربية باللهجة المصرية.
تحدثت دانا مع الطيار المصرى مبارك بوقار وهدوء وقالت له متساءلة:
«إذا ساعدتك على التحدث باللغة الروسية خلال 65 يومًا فقط هل تساعدنى على تعلم اللغة العربية باللهجة المصرية على أن أتحدثها مثلك؟».
لم يفكر الطيار المصرى الشاب كثيرًا، وأعلن لها عن استعداده الكامل لذلك وبالقطع فتح طلب المعلمة دانا باب اللقاءات الضرورية بينهما ليعلم كل منهما الآخر لغته الأم.
اتفق الاثنان يومها على اللقاء الأول خارج المعهد فى حديقة عامة هادئة وسط موسكو حيث علمت الضابطة المعلمة دانا من الطيار المصرى الشاب مبارك أنه سيتزوج خلال أشهر قليلة من فتاة مصرية شابة سليلة أسرة مرموقة خطبت له وأنه يحب تلك الفتاة بشدة.
كما أنه يعشق مهنة الطيران، ويريد أن يتعلم اللغة الروسية بأسرع وقت حتى يبدأ التدريب على الطائرات الروسية الحديثة ليكون بين طليعة الطيارين المصريين الذين سيتولون مهمة قيادة الأجيال الحديثة من الطائرات السوفييتية الصنع.
فى الحقيقة كانت مشكلة الطيارين المصريين الرئيسية فى التعامل مع الطائرات السوفييتية المتطورة أن كتيبات تشغيلها وصيانتها وأجهزتها ومفاتيح تشغيلها وقطع غيارها وأنظمتها الإليكترونية والهيدروليكية الحديثة - وقتها - كانت باللغة الروسية.
ولهذا كان تعلم اللغة الروسية بالنسبة للطيارين الوافدين إلى الاتحاد السوفييتى ضرورة أساسية بل مفتاح سر تُمكن الطيارين المصريين من التعامل مع تلك الطائرات مستقبلا.
سجلت الوثائق السوفييتية «عظيمة السرية» المحظور التعامل عليها فى الأرشيف الرسمى للاستخبارات السوفييتية KGB أن الضابطة دانا ميشيلوفا قدمت نفسها إلى الفصل الدراسى اللغوى للطيار مبارك باسم مزور للتمويه على شخصيتها الحقيقية على أساس أنها معلمة اللغة الروسية فى معهد اللغات التابع للمركز الثقافى العسكرى السوفييتى فى العاصمة الروسية موسكو.
عقب اللقاء مع مبارك حررت الضابطة دانا ميشيلوفا طبقا لتعليمات المهمة المكلفة بها من قبل الاستخبارات السوفييتية KGB تقريرًا سريًا مفصلًا وصفت فيه أول لقاء لها مع الطيار المصرى الشاب محمد حسنى السيد مبارك.
أكدت ميشيلوفا فيه أن مبارك لا يتجاوب مع اللفتات الأنثوية التى تعمدت إبرازها أمامه، وأنه شرقى منغلق، وسيكون من الصعب عليها التعامل معه، وأن كل همه فى أول لقاء كان تعلم كلمات النشيد القومى السوفييتى المفروض أن يردده مع القوات الروسية يوميًا فى الطابور العسكرى الصباحى بالقاعدة الجوية الخامسة 999 التى يعيش بداخلها.
وأكدت دانا ميشيلوفا أنها كانت أول من أقنع الطيار المصرى ابن الواحدة والثلاثين عاما بتناول المشروبات الروسية الشهيرة المحفزة، لأنه كان يرتعد من برودة الجو القارس أثناء جلوسهما معًا فى حديقة «لينين» العامة وسط موسكو فى نهاية فبراير 1959، وأن البرودة منعته كثيرًا من التركيز فى الدرس، ومع ذلك رفض تناول الفودكا الروسية معلنًا تمسكه بالتقاليد الإسلامية، وأنها كما كتبت فى التقرير دخلت معه فى حوار حضارى دينى عميق نجحت فى نهايته أن تفهمه أن الشعب الروسى يتناول الكحوليات لضرورة المناخ، وليس لأنه شعب سكير أو منحل غير أن مبارك لم يكن مقتنعًا.
المثير أن دانا ميشيلوفا ضابطة الاستخبارات السوفييتية KGB كتبت فى ذات التقرير الذى وصفت فيه بالتفصيل كل ما دار بينها وبين الطيار المصرى الشاب أنه رفض فى بداية تعارفهما أن يكون اللقاء بينهما فى منزلها الواقع على أطراف موسكو مدعيًا أنه مرتبط بموعد الحضور والانصراف والمبيت فى القاعدة الجوية السوفييتية الخامسة 999.
وأنه فضل طبقًا لما حررته بيدها اللقاء معها فى حديقة عامة وسط مناخ غير طبيعى من البرودة المبالغ فيها حتى يتهرب من اللقاء بها منفردًا فى شقتها المتواضعة التى سيتضح بعدها فى أسرار عملية «الابن البار» أنها كانت أحدالمساكن المنعزلة التى أدارتها الاستخبارات السوفييتية KGB فى موسكو.
استنادًا على تفاصيل عمليات الاستخبارات السوفييتية KGB فى مصر التى كشفت وثائق الأرشيف السوفييتى «عظيم السرية» أجزاء ومشاهد كاملة منها كانت روسيا قد بدأت من بداية يناير عام 1958 عملية تجنيد وتدريب وإعداد عملاقة وغير مسبوقة لاختيار وتكليف العملاء فى كل أرجاء مصر وأروقة نظامها الحاكم من حيث الكم والكيف ونوعية العملاء.
المهم تعددت اللقاءات ووافق محمد حسنى السيد مبارك الطيار المصرى الشاب فى اللقاء الرابع بينهما على لقاء دانا ميشيلوفا ضابطة الاستخبارات السوفييتية KGB معلمة اللغات، كما قدمت نفسها فى شقتها لأن فكرة التعلم فى الخلاء وسط حديقة لينين لم تعد منطقية بسبب البرودة القارسة، وبالنسبة لجديته فى التعلم سريعًا.
تقريبًا مثلما حدث فى الحديقة حدث فى شقة معلمة اللغات الروسية فقد تجاهل الطيار المصرى الشاب كل محاولات المعلمة الحسناء لإثارته حتى أنها تعمدت أن تنتظره أول مرة بملابس منزلية لافتة.
كتبت دانا ميشيلوفا يومها أن مبارك تفاجأ عند وصوله قليلًا، وكانت أول مرة يشاهدها فيها دون الزى العسكرى الروسى الكامل، ومع ذلك تجاهل كل الترتيبات الرومانسية التى قامت بإعدادها، وأكدت أنه عاملها بشهامة، وكان مندفعًا مثل القطار يريد التعلم بأقصى سرعة.
اللافت أن دانا ميشيلوفا ضابطة الاستخبارات السوفييتية KGB سجلت فى تقريرها السرى عن الطيار المصرى الذى كشفت وثائق الاستخبارات السوفييتية «عظيمة السرية» جزء منه ذكرت فيه:
«أنه شاب مستفذ من وجهة نظرها بارد المشاعر منغلق مستغل بشكل غير عادى يسعى وراء مصلحته لا يفهم فى التقاليد الأوروبية حتى أنه لم يفكر فى إحضار وردة واحدة معه، وقد لمست عنده مشكلة نفسية فى التعايش فى روسيا، لأنه يحب وطنه بشكل مرضى، وقد شكا أنه يشعر بالانفصام فى الشخصية كلما ردد النشيد الوطنى السوفييتى فى القاعدة العسكرية كل صباح».
الخطير أن ملف عملية «الابن البار» الخاص بالطيار المصرى الشاب محمد حسنى السيد مبارك كشف أن شقة الضابطة دانا ميشيلوفا كانت مجهزة بكاميرات التصوير، وأن طاقم التسجيل الفنى التابع للاستخبارات السوفييتية KGB أقام بشكل دائم خلال أيام اللقاءات بين دانا ومبارك فى شقة مجاورة كانت تفتح بابها سيدة روسية عجوز للتمويه، وأنها فتحت لمبارك بالفعل فى أول زيارة له عندما أخطأ فى الشقة، وتبادلت معه عدة كلمات لم يفهم منها سوى إشارتها إلى شقة دانا.
المسجل رسميًا أن الضابطة الروسية دانا ميشيلوفا فشلت فى التعامل مع الطيار المصرى مبارك لكنها كانت مضطرة لإكمال مهمتها، وفشلت فى إغوائه بكل الوسائل التى عادة ما يقع فيها الرجال، وأنه كان يستغلها كمعلمة ليس إلا.
فى الواقع طبقًا لملف عملية «الابن البار» لم تتمكن الاستخبارات السوفييتية KGB من الدخول إلى الطيار المصرى الشاب المراد تجنيده من باب السيطرة النسائية.
وهو أسلوب اشتهر به جهاز KGB، ولهذا السبب لجأ ضباط العملية فى الجهاز الروسى إلى طريقه أطلقوا عليها «الزميل التقليدية» أو طبقًا للمصطلح الاستخباراتى الروسى وقتها «كوليجا».
وهو أسلوب اعتمد على اختيار زميل دراسة للهدف الأجنبى المراد تجنيده أثناء تواجده فى العاصمة الروسية موسكو للدراسة.
وغالبًا كشرط كان ذلك الزميل يحمل دائمًا جنسية أجنبية ثانية بجانب الروسية وهو من عملاء الاستخبارات السوفييتية KGB، لكنه معروف ومفضل لدى الهدف لأنه من زملاء دفعته فى روسيا.
وكان هذا «الزميل» العميل الروسى يظهر فى الجوار منذ أول يوم دراسة للهدف الأجنبى فى موسكو، وفى معظم عمليات «الابن البار» السوفييتية كانوا يتعمدون تسكينه فى غرفة مشتركة مع الهدف.
وذلك بغرض توطيد الصداقة بينه وبين الهدف إلى درجة تمكنه عند تكليفه رسميًا من قبل الجهاز الروسى من الضغط على الهدف الأجنبى زميله لإقناعه أو إغوائه من أجل التعامل والتعاون المباشر مع الاستخبارات السوفييتية KGB
فى الحلقة القادمة حصريًا:
تفاصيل خديعة مبارك وتضليله لجهاز الاستخبارات السوفييتية KGB مما ساهم فى انتصار أكتوبر العظيم.
مبارك أحد أبطال عملية الخداع الاستراتيجى فى 1973
السر الحقيقى الذى لم يكشف نهائيًا وراء اختيار الرئيس السادات مبارك نائبًا له.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.