كعادته أثار راشد الغنوشي زعيم الإخوان المسلمين في تونس غضب الرأي العام المصري والتونسي بتدخلاته المعتادة في شأن الدولة المصرية، وتجاوزاته ضد ثورة 30 يونية التي أطاحت بالرئيس المعزول محمد مرسي وجماعته، وآخر ما جاء به الغنوشي تلميحه إلي إمكانية منح الحكومة التونسية اللجوء السياسي لعناصر من جماعة الإخوان "الإرهابية" في مصر، بالَاضافة الي انتقاده لنتائج الاستفتاء علي الدستور المعدل في مصر، بزعمه -غير اللائق- أن هذا الاستفتاء مهزلة ومأساة.. ما يحدث في مصر لا يعبر عن إرادة الشعب باعتبار أنه لا يوجد دستور يحظي بنسبة 90% من الذين صوتوا بنعم". ورغم ذلك إلا أن حركة "النهضة" نفسها، نفت بواسطة متحدثها الرسمي زياد العذاري، الذي قال إن مسألة منح اللجوء السياسي لإخوان مصر في تونس غير مطروحة، ولم تتم مناقشتها داخل مؤسسات الحركة، حيث إن منح اللجوء السياسي ليس من شأن الأحزاب السياسية، وإنما هو قرار يعود للحكومة التونسية. ومن ناحية الجانب المصري، أكدت مصادر مسئولة أن مصر لن ترد علي تصريحات راشد الغنوشي لأنه لا يمثل تونس، وليست له صفة رسمية في الدولة. ويري الخبراء أن "الغنوشي" يريد إرضاء بعض التيارات المحسوبة علي الإسلام السياسي في تونس، بسبب الغضب من بعض مواد الدستور التي أعلنوا رفضهم لها، حيث إن الغنوشي يريد تمرير الدستور بأي ثمن، حتي ولو بالتندر والهجوم علي نتائج استفتاء الدستور المصري، والظهور بثورية إسلامية غير مكلفة في الداخل التونسي، بعرض ما أسماه اللجوء لإخوان مصر، والسماح بإقامة المؤتمر العالمي للإخوان بتونس بعد فشل إقامته في تركيا. وهناك من يعتقد ان براجماتية الشيخ الغنوشي تضره كثيراً، لسبب أن الإخوان في مصر لم يعودوا إصلاحيين، إنما انقلابيين، وحولتهم الأحداث والهزائم إلي الأكثر تشدداً حتي من سلفيي تونس، وصاروا علي استعداد للتحالف مع كل من يسعي لهدم الدولة واستنزاف الجيش ومؤسسات الدولة، للوصول للسلطة وتحقيق مآربهم، كما حذر الخبراء تونس من احتضانهم، حيث قد تنتقل إليها العدوي الانقلابية العنيفة، وقد تفشل الخطوات الإصلاحية الهادئة المتدرجة هناك. ورغم محاولات الغنوشي المستميتة لنفي صلته باجتماعات التنظيم الدولي للإخوان المسلمين الذي يقود حرباً ضروس ضد مصر بعد ثورة 30 يونية، إلا أنه يعتبر أحد أهم المسئولين الكبار عن هذا التنظيم الذي يعمل بكل ما أوتي من قوة لتشويه صورة الجيش المصري بعد أن استجاب لرغبات الملايين من المصريين بالإطاحة بحكم مرسي وجماعته.. وهو التنظيم الدولي الذي يكاد يقترب نفوذه من نفوذ وتأثير الدول العظمي، لما يملكه من أموال ضخمة ودعم من الولاياتالمتحدة وحلفائها، ولما يملكه أيضا من علاقات متفاوتة مع التنظيمات الإرهابية في كل دول العالم تقريبا. والمراقبون لحركة الإخوان المسلمين وتنظيمها الدولي، وجدوا في تصريحات الغنوشي، تأكيدات بأن هذا التنظيم يتعرض لاضطرابات كبيرة من الداخل، فأراد نقل المعركة الي الخارج ليجعل نفسه هو رأس الحربة في المعركة الجديدة علي النظام المصري، ومن المعلوم أن الغنوشي، يواجه معارضة شعبية واسعة وقوية في بلاده، نظراً لما آلت اليه الأوضاع هناك من سوء ازداد يوما بعد يوم. وأصبح الغنوشي -أحد أهم منظري حزب العدالة والتنمية الإسلامي في تركيا وزعيم حركة النهضة في تونس والذي عاد إليها من لندن ليقفز علي الثورة التونسية- متفرغاً الآن للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين الذي يمارس أهم وأخطر دور في تاريخ شمال إفريقيا والشرق الأوسط. وكثيراً ما يتحدث "الغنوشي" عن الشأن الداخلي المصري، بطريقة معادية لثورة 30 يونية التي أطاحت بإخوانه في مصر، وقد علق علي عملية القبض علي المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، محمد بديع، بقوله إن القبض علي بديع سيدفع بالإخوان المسلمين إلي العنف وجرهم إليه جرا، وأضاف الغنوشي وقتها، في تصريحات صحفية، أن هذه ليست المرة الأولي التي يسجن فيها بديع، وقد كان يحمل صفات أخري حينها، ولكن الجرأة عليه الآن وهو مرشد لأهم تنظيم في مصر وفي العالم فهو نهاية الاستفزاز. وعندما سألوه عن سبب رفعه ل"شعار رابعة" ومدي تأثير هذا الأمر علي العلاقات التونسية مع مصر ودول الخليج، قال: "من حق الشعب المصري أن يختار حكامه، ومن حقنا إبداء رأينا"، وكان قد أنزل الغنوشي في صفحته الخاصة علي ال«فيس بوك» صورة له وهو يرفع شعار رابعة العدوية، خلال مشاركته في فعاليات اختتام الملتقي الوطني لشباب حركة النهضة نهاية ديسمبر الماضي. ويذكر ان حركة النهضة الإسلامية بتونس، خرجت من الحكم مؤخراً خوفاً من تكرار السيناريو المصري، وهذا ما عبر عنه الغنوشي في تصريحات صحفية بأن حركته لم تُرغم علي الخروج من الحكومة، علي الرغم من امتلاك الحركة لأغلبية نسبية بالبرلمان إلا أن التخلي عن الحكومة كان لإنقاذ البلاد من حالة التشابك والانقسام وحبًا في تونس. وكان يري المراقبون التونسيون ان الغنوشي ماهر في اختلاق المشاكل في كل خطوة نحو الحوار وإلقاء التهم ضد المعارضة، وكان قد وصف المراقبون ما يحدث فيما قبل تخلي حركة الغنوشي عن الحكومة بأفلام رعاة البقر عندما يقبل الخصمان بالتحاور معًا لكن يكون إصبع كل منهما علي زناد المسدس. ويعرف أن الغنوشي جاء الي مصر بعد انتهائه من الدراسة الثانوية في تونس ليستكمل دراسته الجامعية في القاهرة، مستفيداً في البداية من الخصومة التقليدية التي كانت قائمة بين بورقيبة الحاكم التونسي وقتها، وبين الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، فمارس هو وباقي الطلبة التونسيين ضغوطاً شديدة وتظاهروا أمام بيت عبدالناصر إلي أن حصلوا علي حق التسجيل في الجامعة، والتحق بكلية الزراعة، ولكن القدر لم يمهله كثيراً في مصر أكثر من ثلاثة شهور بدأت عام 1964، حيث عادت العلاقات بين مصر وتونس آنذاك وكان طرد الطلبة التونسيين أحد شروط إنهاء الخصومة، فاضطر الغنوشي للهجرة الي سوريا وانتقل من دراسة الزراعة الي دراسة الفلسفة. وعلي الرغم من طرده من مصر الناصرية، الا انه ظل بناصريته، معتقداً ان عبدالناصر ليس مسئولاً عن طرد الطلبة التونسيين، ولذا انضم الغنوشي الي التيار الناصري وكان عضواً ورئيساً لخلية في الاتحاد الاشتراكي السوري، ومن شدة اعتزازه بالناصرية قال ذات مرة عبر حوار تليفزيوني "إن عبدالناصر كان بالنسبة له من المقدسات التي لا يتحمل فيها أي نقد أو أي نيل"، بينما انقلبت أفكاره رأساً علي عقب بعد اجرائه عدة حوارات دارت في الجامعة بين التيار الإسلامي والتيار القومي، خرج منها بقناعة أن البضاعة القومية التي يحملها بضاعة عمقها محدود، وبحكم الدراسة الفلسفية التي بدأها أخذ يتجاوز موضوع الشعارات ويتعمق فيها فتبين له أن هذه الشعارات ليس تحتها شيء كثير، حسبما أشار الغنوشي نفسه في أحد لقاءاته. ذهب الغنوشي مباشرة بعد انتهاء دراسته في سوريا صيف 1968 إلي فرنسا لمتابعة دراسته العليا في الفلسفة، ومن باريس انطلق "الغنوشي" للاندماج مع الحركة الإسلامية، فقد تعرف فيها علي جماعة التبليغ، التي تأسست علي يد مجموعة صغيرة من الباكستانيين أتت إلي باريس سنة 1968، في حيٍ فقيرٍ جداً، ولما كانت المجموعة معظمها من العمال فقد جعلوا من الغنوشي إماماً لهم علي الرغم من افتقاره لأي تجربة في العمل الدعوي، فبدأ يتعلم الخطابة وتحول من أستاذ فلسفة إلي مثقف إسلامي إلي داعية. ويقول الغنوشي في سيرته إنه ظل ثلاث سنوات تقريباً يعمل علي منهج جماعة التبليغ في العمل الدعوي فقط، بشكل علني وصريح، بعيدا عن كل تأثير سياسي، غير أن السلطة التونسية وقتها ما لبثت إلي أن أوقفته ورفاقه، بما فرض عليه إعادة النظر في هذا المنهج العلني، ومن هنا بدأ يستفيد ويقتبس من منهج الإخوان وتجربتهم، وذلك بعد عودته الي تونس مع بداية السبعينيات، ليبدأ نشاطه الدعوي وسط الطلاب وتلاميذ المعاهد الثانوية، الذين تشكلت منهم حركة الاتجاه الإسلامي المعروفة بالنهضة. وفي عام 1981 اضطر الحزب الدستوري الحاكم في تونس لإقرار مشروع التعددية السياسية، وقد بادر أعضاء الجماعة الإسلامية التي كان يتزعمها راشد الغنوشي إلي عقد مؤتمر عام، أعلنوا في ختامه عن حل الجماعة الإسلامية، وتأسيس حركة جديدة باسم حركة الاتجاه الإسلامي، وانتخب راشد الغنوشي رئيساً لها، وقد صدرت وثيقتها التأسيسية في التاريخ نفسه، ومازالت تعد المرجع الفكري لحركة النهضة، وأعيد انتخابه عام 2007 وبهذا يكون الغنوشي زعيم هذه الحركة حتي الآن.