علاقة المراهقة حفزته على التوجه الرومانسى وعلى أن يعلم نفسه اللغة الفرنسية وأن يترجم عنها للعربية فى وقت لاحق أن تزور شخصًا ما.. معناه أنك تطرق بابه لتأتنس به، أحيانا من باب الود وأحيانا من باب طلب الحاجة ودائما من باب الحنين.. أما أن تكون الزيارة حميمية، فهى من المؤكد زيارة تتعلق بشخص قريب إلى القلب، أو مكان يسكن الوجدان.. أو الاثنين معا. أنت تذهب لزيارة شخص ما..لكن، ماذا إذا جاءك هذا الزائر ليطلبك لزيارته؟.
أحيانا يحتاج الشخص أثناء حياته إلى من يزوره من باب الوحشة أو الوحدة أو حتى الونس، ولكن أن يطلب الشخص الزيارة بعد رحيله، فهذا هو المختلف.. نحن اليوم بصدد عمل، لن أطلق عليه سيرة ذاتية، ولا سيرة حياتية.. لكنه بالفعل زيارة حميمية كما أطلقت عليه صاحبته.. نحن أمام كتاب مختلف، من أول العنوان مرورا بالغلاف وحتى المحتوى.. إنه كتاب (إبرهيم ناجى.. زيارة حميمية تأخرت كثيرا) للكاتبة الأستاذة الجامعية د. سامية محرز، أستاذة الأدب العربى ومديرة مركز دراسات الترجمة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة.. وعلى رأس كل ذلك هى حفيدة الشاعر الكبير إبرهيم ناجى.. الحقيقة أن مشوار «محرز» فى طريق الأدب العربى يختلف تماما عن مشوار جدها الذى نسج من الشعر نسيجا من الدانتيلا الناعمة فى أبيات لن تموت أبدا، حتى بعد رحيله، المختلف أنها تعلمت فى مدارس أجنبية منذ الطفولة، وتخصصت فى الأدب الإنجليزى، ولكن سرعان ما قررت أن تأخذ وجهة جديدة أثناء الرحلة وتنعطف لتدرس الأدب العربى وفنون الترجمة، ومن ثم أسست مركز الترجمة بالجامعة الأمريكية عام 2009، وصدر لها عدة دراسات ومقالات فى مجال الترجمة الأدبية والنقد الثقافى، وهكذا أصبح هذا الكتاب هو أول عمل تكتبه باللغة العربية.. زيارة تأخرت: لم تعرف سامية جدها الشاعر إبراهيم ناجى الذى عرفه الكثيرون، فقد توفى قبل ولادتها بعامين، لكن مثلها مثل أى حفيد يولد فى عائلة يعرف أن له جدا كان له شأن كبير، يفتخر به، ويتباهى بكونه امتدادا لهذا الجد، إلا أنه لم يجلس على حجره ولم يستمع له وهو يروى الحكايات، ربما كان ولازال بالنسبة لها مجرد صورة فى ألبوم الذكريات أو وجها مألوفا فى برواز على الحائط..إلا أن هذا الجد ودون سابق إنذار جاء إليها طالبا الزيارة.. بل طالبا زيارة حميمية؟. كيف؟.... هذا ما ترويه د.سامية محرز فى كتاب من 274 صفحة صادر عن دار الشروق المصرية للنشر والتوزيع، وهى الدار التى عودتنا أن تنتقى العناوين المعنية بنشر ثقافة لها قيمة، وأعمال ترسخ تاريخ مصر بين صفحات الكتب. فى بداية الكتاب تروى د.سامية عن عدم إكتراثها كمراهقة بأشعار جدها التى كانت تراها سر تعاسة مطلقة لزميلاتها فى المدرسة، واستشهدت على ذلك بقصيدة (العودة) التى جعلتها مدعاة للسخرية بين زملائها حديثى السن والعلم، نظرا لصعوبة النص المقرر. كما تروى أيضا كيف انبهر الأديب جمال الغيطانى حين دخل بيت العائلة لمناقشة موضوع أطروحة الدكتوراه عن مجمل أعماله، ليلاحظ صورة إبراهيم ناجى على الجدار فى طريق خروجه من المنزل، ليسألها ضاحكا: «هو الدكتور ناجى بيعمل عندكوا إيه؟». وتكتشف الحفيدة أن وجه الشبه بينها وبين جدها كان أولى ملاحظات الأديب الكبير. تبدأ القصة من واحد شارع حسونة النواوى المتفرع من أبو بكر الصديق بمصر الجديدة..وهو عنوان منزل الجدة والجد. ثم تنتقل إلى حيث وجدت المظروفين المغلقين، أجندة باللغة العربية بها مذكرات إبراهيم ناجى وفى المظروف الثانى مجموعة من الأوراق القديمة والكراسات جزء منها بالعربية وجزء بالإنجليزية..ومن هنا تبدأ أحداث الزيارة، ففكرة الكتاب بُنيت على آخر ما تبقى لورثة إبراهيم ناجى من أوراقه، والتى استقرت بين يدى حفيدته على شكل مظروفين فيهما مفكرة تضم تدوينات بخط يده فى الفترة بين 1944 وحتى 1949، إضافة إلى مجموعة من الخطابات والترجمات التى لم تنشر من قبل. تقول محرز عن جدها الطبيب الرومانسى الحالم: «هذه الزيارة خلقت بيننا صداقة، وقد سمحت لى مفكرته بالتعرف عليه وتقبّله، فحياة ناجى مبهرة بالنسبة لى، لأنه كان مليئًا بالطاقة، ورغم حياته القصيرة والأمراض التى أصابته والمحن التى مر بها، إلا أنه استطاع أن يكون مثقفًا موسوعيًا فى كل النواحى، بما فى ذلك هوسه بالعلم والكتابة والمعرفة ونشرها على جمهور عريض». وتقول أيضا عن إختيارها لعنوان الكتاب: «اخترت أن أسميه (زيارة) لأنى أتعرف على شخص لا أعرفه، من خلال خط يده وأوراقه، فالكتابة عن ناجى ليست مشروع العمر بالنسبة لى. أنا أكتب فقط عن الوثائق التى عثرت عليها، وحاولت ربطها بالتواريخ والأحداث فى حياته، وما وصلنى من حكايات». هنا لا يفوتنى أن أحيى مصمم الغلاف الابن المهندس نديم جاكمون ابن الدكتورة سامية الذى على ما يبدو تعلق بالكتاب بشكل أكبر من أمه فقرر تصميم الغلاف لها والذى أراه تصميا ناجحا وجذابا. ناجى الطبيب الرومانسى: بدأ ناجى حياته التعليمية فى مدرسة باب الشعرية الابتدائية عام 1907 والتوفيقية الثانوية عام 1911 ومدرسة الطب بقصر العينى عام 1922، وتم تعيينه طبيبا حكوميا فى وزارة المواصلات فى السكك الحديدية عام 1922، ثم فى وزارة الصحة وبعدها فى وزارة الأوقاف حتى شغل منصب مراقب عام القسم الطبى فى الوزارة وخرج إلى المعاش مبكرا لضعف صحته ثم تفرغ لعيادته الخاصة كما شغل منصب طبيب نقابة السينمائيين والممثلين وكان وكيلا لمدرسة «أبوللو» الشعرية عام 1932 ورئيسا لرابطة الأدباء فى مصر عام 1945.. كانت بداية إبراهيم ناجى الشعرية عام 1926م، من خلال ترجمة بعض أشعار ألفريد دى موسييه وتوماس مور شعرًا ونشرها فى جريدة «السياسة» الأسبوعية، وانضم بعد ذلك إلى جماعة أبوللو الشعرية عام 1932م وأصبح وكيلا لها.. قصص طريفة: غنّت الفنانة أم كلثوم رائعتها «الأطلال» من شعر إبراهيم ناجى بعد أكثر من 13 عامًا على وفاته، فانهمرت التصريحات وقتها من الكثيرات من نجمات الفن والأدب للصحافة بأن القصيدة كُتبت لهن، وهو ما شكّل عاصفة واجهتها الأسرة آنذاك، واضطرت معها بنات ناجى الثلاث إلى نشر بعض خطابات أبيهن إلى أمهن، وفقًا لما كتبته محرز فى الكتاب. تروى أيضا محرز علاقة الغرام بين ناجى وشكسبير فى فصل أسمته (صديقى شكسبير)، فناجى يقول إن الطلبة كانوا يكرهون كتب شكسبير المقررة عليهم أما هو فكان يعشقها ويحفظها ويجيد تمثيلها، فكانت قصته فى امتحان البكالوريا وحفظه لمسرحية هاملت كاملة من النوادر التى تناقلها الكثيرون ممن كتبوا عنه. أما رسائل (هومة) و(سومة) أو رسائل جدها وجدتها إبراهيم ناجى وسامية سامى التى نشرتها أيضا، وكتبت عنها بشكل حالم ورقيق رغم الغلطات اللغوية التى أصرت هى والناشر على الإبقاء عليها وفاء وحرصا منهما على روح النص كما وجدوه. تتوالى الحكايات بين كونه عاشقا ولهانا وامرأة مجهولة فى حياته كانت ملهمته ليسطر الشعر، وكونه طبيب العائلة الذى يداوى الجراح ويعالج ويسطر ذلك فى أجندة صغيرة. الملهمة المجهولة: اهتمت محرز بشجاعة ودقة بالمُلهمة الأولى لجدها وتفصح عن اسمها لأول مرة، وهى التى ترى أن «الأطلال» ربما تكون قد كتبت لها، تقول عنها: «لم يكن همى الدفاع عن ناجى أو الحفاظ على صورة العائلة، فأهمية ملهمة ناجى الأولى (علية الطوير) لا تقف فقط عند قصيدة الأطلال، بل لأنها علاقة المراهقة التى ربما أدت إلى توجهه الرومانسى. ثانيًا لقد حفزته علاقته بها أن يُعلّم نفسه اللغة الفرنسية وأن يترجم عنها لاحقًا. وأنا أتتبع هذه الشخصية لأنها غالبًا كانت مؤثرة على تكوين ناجى الفكرى كله، بغض النظر عن كونه كتب الأطلال لها أم لا». مواقف صعبة: أصعب المواقف التى يرويها الكتاب تلك التى عاشها ناجى وقتما إكتشف أنه مصاب بمرض السكر وهو فى بداية شبابه وعمره 26 عاما وعاش بعدها حاملا حقيبة بالأدوية التى تسعفه عندما يتعرض للأزمات ولم ييأس لحظة واحدة من رحمة الله، والموقف الأصعب يوم صدمته سيارة كانت مسرعة وأحدثت به إصابات شديدة فى ساقه والحوض وأخبره الاطباء بأنه سيظل عاجزا مدى الحياة، لكنه دخل مستشفى فى لندن لمدة ثلاثة أشهر تلقى خلالها جلسات علاج على الساق وأجريت له عملية جراحية احتمل الآلام وصبر بعدها سنوات حتى تحسنت حالته وعاد إلى طبيعته مرة أخرى وفى أثناء وجوده فى المستشفى كان يرسل رسائل إلى صديقه محمود الشرقاوى يصف له فيها ما يعانيه من أزمة نفسية حادة وحينما عاد إلى مصر مكسور الساق قال جملته الشهيرة: «خرجت من الديار أجر همى وعدت إلى الديار أجر ساقي». الحقيقة أن الكتاب أدب من نوع مختلف، أدب إنسانى، الاختلاف الجوهرى فيه أن تلك الزيارة التى قامت بها سامية محرز بين أروقة حياة الشاعر الكبير إبراهيم ناجى هى مجرد صدفة رتبها القدر ولم تخطط لها الحفيدة، فكانت بمثابة رحلة اكتشاف لقريب لم يكن يوما قريبا، لكنه بات كتابا مفتوحا بعد تلك الزيارة.