تخلى عنهم البصر وجعلهم الإبداع أشهر صانعيه يجلسون سويًا جنبًا إلى جنب، يستشعرون بأناملهم أدق تفاصيل «الطين»، ليحولوا نظرات الشفقة تحسرًا على بصرهم المفقود، إلى تفرد بالأسلوب والمهارة، ترى فى أعينهم التى انطفأ نورها، إصرارا وعزيمة افتقدها الكثير من أبناء جيلهم. حربى، كمال، وسعيد، ثلاثة أشقاء من مدينة نقادة التابعة لمحافظة قنا، يجلسون بهدوء وثقة لساعات طويلة، يمارسون مهنة صناعة الفخار، التى لطالما أحبوها وتوارثوها عن آبائهم منذ نعومة أظافرهم قبل 45 عامًا. «إعاقتى زادتنى إصرارًا وثباتًا وقدرة على التحمل»، بتلك الكلمات استهل حربى، خريج كلية الدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر الشريف، حديثه إلى «الفجر»، حول تحديه لإعاقته التى كادت أن تقف فى طريق كسبه للرزق، بعدما فشل فى الحصول على وظيفة حكومية، إلا أن ولعه بمهنة صناعة الفخار التى تتطلب دقة عالية وبراعة لتشكيل قطع الطين لتحف فنية، جعله يعتمد على نور القلب والبصيرة بعدما فارقه نور البصر. أما كمال، الشقيق الأكبر، فقال إنهم فقدوا بصرهم واحدًا تلو الآخر، بعدما أصيبوا بأمراض فى قرنية العين، وعجز الأطباء عن علاجهم، ليبدأوا سويًا رحلة كفاح، دفعتهم لاستكمال مسيرة والدهم فى صناعة الأوانى الفخارية، معتمدين على بصيرتهم وحاسة اللمس فى تشكيل الأوانى، نجحنا فى تصنيع أوانى فخارية على طريقتنا الخاصة، بعدما مزجنا رحلتنا العلمية بالعملية، وجذبنا انتباه تجار المحافظات المجاورة، لنتربع بذلك على قمة مصنعى الفخار فى قنا، بل وجنوب الصعيد. يشكل الأشقاء نموذجًا يحتذى به، فى العمل الجماعى، حيث يقوم الأول بتصنيع الطين ومزجه جيدًا ليكون عجينة ذات قوام متجانس متماسك، ويقوم الثانى بتقطيعها إلى قطع ذات أطوال وأحجام متناسبة، ثم يقوم الأخير بتشكيلها على الدولاب الخشبى الذى يدور بتحريكه بواسطة قدمه من الأسفل، لتقوم يداه وأصابعه بتشكيل تلك القطع الطينية إلى أشكال فخارية جميلة، وسط مشهد يترقبه الأطفال الصغار، الذين يهرعون إلى ورشتهم، عقب انتهاء اليوم الدراسى، ليستمتعوا بمشاهدة الأشقاء الثلاثة أثناء عملهم.