قرصنة دولية ومحاولة لنهب الموارد، أول رد فعل لفنزويلا بعد استيلاء على ناقلة نفط أمام سواحلها    ماسك يتحدث عن إلهان عمر وممداني والجحيم الشيوعي    يوسى كوهين شاهد من أهلها.. مصر القوية والموساد    لمدة 6 ساعات خطة انقطاع المياه اليوم في محافظة الدقهلية    مجلس النواب الأمريكي يصوّت بالأغلبية لصالح إلغاء قانون عقوبات "قيصر" ضد سوريا    DC تطرح أول بوستر رسمي لفيلم Supergirl    قرار جديد ضد المتهم بالتحرش بفنانة شهيرة في النزهة    فنزويلا تتهم الولايات المتحدة ب"السرقة الصارخة" بعد مصادرة ناقلة نفط في الكاريبي    ناسا تفقد الاتصال بالمركبة مافن التي تدور حول المريخ منذ عقد    التعاون الإسلامي تدين خطط الاستيطان الإسرائيلية الجديدة في الضفة الغربية    خريطة برلمانية جديدة بانتظار حكم «الإدارية العليا» في المرحلة الثانية لانتخابات النواب    سلوى عثمان: أخذت من والدتي التضحية ومن والدي فنيًا الالتزام    دعاء الفجر| (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين)    أول قرار ضد مضطرب نفسي تعدى على رجال الشرطة لفظيا دون سبب بمدينة نصر    التحقيق مع شخص يوزع بطاقات دعائية على الناخبين بالطالبية    مراكز الإصلاح والتأهيل فلسفة إصلاحية جديدة.. الإنسان أولًا    أحمد مراد يعتذر عن تصريحه الأخير المثير للجدل عن فيلم الست    رفض الأسلوب المهين من ضابط وإعطاء مفتاح سيارته له ..وفاة شاب تحت التعذيب بقسم شرطة ثالث المحلة    توقيت أذان الفجر اليوم الخميس 11ديسمبر 2025.. ودعاء مأثور يُقال بعد الانتهاء من الصلاة    يوفنتوس ينتصر على بافوس بثنائية نظيفة    تعرف على اسعار العملات الأجنبيةوالعربية أمام الجنيه المصري اليوم الخميس 11ديسمبر 2025    "شغّلني" تُطلق مشروع تشغيل شباب الصعيد بسوهاج وقنا    لماذا تجدد أبواق السيسى شائعات عن وفاة مرشد الإخوان د. بديع بمحبسه؟    خالد أبو بكر يشيد بجهاز مستقبل مصر في استصلاح الأراضي: سرعة العمل أهم عامل    التحضير لجزء ثانٍ من مسلسل «ورد وشوكولاتة»    عاجل - قرار الاحتياطي الفيدرالي يخفض أسعار الفائدة 25 نقطة أساس في ثالث خفض خلال 2025    تصعيد سياسي في اليمن بعد تحركات عسكرية للمجلس الانتقالي    أرسنال يسحق كلوب بروج بثلاثية خارج الديار    مواقيت الصلاة اليوم الخميس 11ديسمبر 2025........مواعيد الأذان في محافظة المنيا    سلمان خان وإدريس إلبا وريز أحمد فى حفل جولدن جلوب بمهرجان البحر الأحمر    بانا مشتاق: إبراهيم عبد المجيد كاتب مثقف ومشتبك مع قضايا الناس    الرفق بالحيوان: تخصيص أرض لإيواء الكلاب الضالة أحد حلول انتشار هذه الظاهرة    منتخب مصر يواصل تدريباته بمركز المنتخبات الوطنية استعدادا لأمم إفريقيا (صور)    رودريجو: ليس لدي مشكلة في اللعب على الجانب الأيمن.. المهم أن أشارك    كرة طائرة - خسارة سيدات الزمالك أمام كونيجيليانو الإيطالي في ثاني مواجهات مونديال الأندية    "جنوب الوادي للأسمنت" و"العالمية للاستثمار" يتصدران ارتفاعات البورصة المصرية    البنك المركزي: معدل التضخم الأساسي السنوي يسجل 12.5% في نوفمبر 2025    حقيقة منع شيرين عبد الوهاب من رؤية ابنتيها وإفلاسها.. ما القصة؟    "امرأة هزت عرش التحدي".. الموسم الثاني من مسابقة المرأة الذهبية للمركز الإفريقي لخدمات صحة المرأة    القبض على شخص اقتحم مدرسة بالإسماعيلية واعتدى على معلم ب "مقص"    المتهم بتجميع بطاقات الناخبين: «كنت بستعلم عن اللجان»    4 فوائد للملح تدفعنا لتناوله ولكن بحذر    أعراض اعوجاج العمود الفقري وأسبابه ومخاطر ذلك    معهد التغذية يكشف عن أطعمة ترفع المناعة في الشتاء بشكل طبيعي    انتبهي إلى طعامك خلال الأشهر الأولى من الحمل.. إليك قائمة بالمحاذير    الأرقام تكشف.. كيف أنقذ صلاح ليفربول من سنوات الفشل إلى منصات التتويج.. فيديو    مستشار وزير الثقافة: إدارج "الكشري" في قائمة تراث اليونسكو يمثل اعترافًا دوليًا بهويتنا وثقافتنا    أستاذ علوم سياسية: المواطن استعاد ثقته في أن صوته سيصل لمن يختاره    الزوامل والتماسيح: العبث البيئي وثمن الأمن المجتمعي المفقود    ضبط شاب ينتحل صفة أخصائى علاج طبيعى ويدير مركزا غير مرخص فى سوهاج    البابا تواضروس يهنئ الكنيسة ببدء شهر كيهك    ارتفاع الأسهم الأمريكية بعد قرار مجلس الاحتياط خفض الفائدة    ترامب: الفساد في أوكرانيا متفشٍ وغياب الانتخابات يثير تساؤلات حول الديمقراطية    التعادل السلبي يحسم موقعة باريس سان جيرمان وأتلتيك بلباو    ساوندرز: ليفربول ألقى صلاح تحت الحافلة؟ تقاضى 60 مليون جنيه إسترليني    "الصحة" تكشف عن الفيروس الأكثر انتشارا بين المواطنين حاليا    الأوقاف تختتم فعاليات المسابقة العالمية الثانية والثلاثين للقرآن من مسجد مصر الكبير بالعاصمة    حاسوب القرآن.. طالب بكلية الطب يذهل لجنة التحكيم في مسابقة بورسعيد الدولية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شيخ الأزهر في خطابه للأمة: أوصي الجميع بأن يضعوا الشَّباب نصب أعينهم
نشر في الفجر يوم 08 - 12 - 2016

وجه الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، خطابا للأمة الإسلامية والعربية بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف.

وفيما يلي نص الكلمة:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحَمْدُ لله وأصلي وأسلم على سيدي صاحب هذه الذكرى العطرة محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه.

الرئيس/ عبد الفتاح السيسي – رئيس جمهورية مصر العربية حفظه الله
الحَفْلُ الكَريم!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد؛

فإنَّ يَومَ مَولِدِه صلى الله عليه وسلم ليس فقط يومًا لميلادِ رَسُولٍ عظيمٍ، أنقذَ الله به الإنسانيَّةَ وصحَّحَ به التَّاريخ، وإنَّمَا هو ذكرى ميلاد أُمَّة صَنعَها هذا النَّبِيُّ الكريم، وربَّاها على كرائم الأخلاقِ وأصُولِ الفضَائلِ، والدَّعوة إلى الخَيرِ والحَقِّ، ومُقاومَة الشَّرِّ والبَاطِلِ، وبفَضلٍ من هذه التَّعالِيمِ النَّبويَّةِ قدَّمَ المُسلمُون في مَسيرتَهِم الحضَاريَّة كثيرًا مِمَّا أَسعَدَ الإنسانيَّة، وظلَّلها بظلالٍ وارفةٍ من العدلِ والحُريَّةِ والإخاء، وعصَمَها مِمَّا ارتكَسَت فيه حضَاراتٌ أُخرى، كانت – في بعض انعكاساتها- وَبَالاً وشَرًّا مُسْتطيرًا على البَشَريَّة قَديمًا وحَديثًا..

ولعلَّ مِن أصعبِ الصَّعبِ، إنْ لَمْ يَكُن من رَابِعِ المُستحِيلاتِ، تقديمُ شخصيَّةٍ استثنائيَّةٍ كشخصيَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، والإلمَامُ بِعَظَمَتِهَا، في كَلِمَةٍ أو مُحاضَرةٍ أو كُتُبٍ صَغُرَت أو كَبُرَت، فَضْلًا عن الإحاطةِ بملامِحِها وقَسَمَاتِها، وإنْ شِئْتُم دَليلًا على ذلك فانظروا إلى الإمام محمد بن يوسُف الصَّالحي الشَّاميّ، من عُلَمَاءِ القَرن العاشر الهجري، في مَوسُوعته الكُبرى: «سُبُلُ الهُدَى والرَّشَاد في سِيرةِ خَيْرِ العِبَاد»، فقد قضى هذا الإمام عُمره في تأليفِ هذه المَوسُوعةِ التي وصَفَهَا في مُقَدِّمة كِتَابِه بقولِه: «وإذا تأمَّلتَ هذا الكتاب عَلِمْتَ أنَّه نتيجةُ عُمْرِي وذخيرةُ دَهْرِي» وقال عنه: إنه انتخبه من أكثرَ من ثلاثِ مائةِ كتابٍ في السِّيرةِ، قرأها وتحرَّى فيها الصَّواب الذي أثبتَهُ في موسوعته هذه، وقد تَدهَشُونَ حين تَعْلَمُون حَضَراتُكُم أنَّ عدَدَ صفحَات مُجلَّدات هذا الكتاب بلغت سِتًّا وستينَ ومائةً وتسعةَ آلاف صحيفةٍ، كان محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم مِحْوَرَ الحَديث فيها، من أوَّلِ سطرٍ إلى آخر سطرٍ.

ومن عَجَبِ أمرِ هذه السِّيرةِ العَطِرَة أنْ تنوَّعَت إلى أنواعٍ عِدَّة من السِّيَر، لَمْ تُعْرَف لشخصيَّةٍ في التاريخِ البشريِّ إلَّا للذَّاتِ المُحمَّديَّة.

فمن هذه السِّيرة ما يُعْرَفُ بالخصائصِ، وهي: الصِّفَاتُ والفضائلُ والمكارِمُ التي اخْتُصَّت بها شخصيَّتهُ المُتفرِّدة على مستوى الإنسانيَّة، وعلى مستوى التاريخِ وامتداد الكَونِ.

ومنها نَوْعٌ ثانٍ أُطْلِقَ عليه «الشَّمائلُ المُحَمَّدِيَّة»، وهو عِلْمٌ مُستقلٌّ من علومِ السِّيرَة النَّبَويَّة، سُجِّلت فيه أدقُّ دقائقِ أوصَافِه صلى الله عليه وسلم الخِلْقيَّةِ، والخُلُقيَّةِ، وأحوالُه الشَّخصيَّةُ والمنزلِيَّة والمُجتمَعيَّة.

وفي هذه الشمائل نقرأُ وصفًا تفصيليًّا عن: هَيئتهِ صلى الله عليه وسلم: وقسماتِ وَجْهِهِ الشَّريف، ولَوْنِهِ وعينيهِ وأنفِه وفَمِهِ وشَعْرِهِ، وطُولِهِ وعَرْضِهِ، وكَفَّيهِ وقدَمَيْهِ، وكيفيَّة مِشْيَتِهِ، وكيفَ كان ينظرُ إلى النَّاسِ.. ثُمَّ ينتقلُ التَّسجِيلُ الدَّقيقُ إلى وصفِ خاتَمِه صلى الله عليه وسلم، وخِضَابِه ولِباسِه وخُفِّهِ ونَعْلَيه، وسَيْفِه ودِرْعِه، وعِمَامتِه وإزاره، ثم جِلْسَتِهِ واتِّكائِه، وأكله ونَوْمِه، وضَحِكِه ومِزاحِه وبُكائه، إلى تفاصيلَ أُخرى يضيقُ المقامُ عن سَرْدِها..

هذا فيما يتعلَّق بصِفاتِه الخِلْقِيَّة، أمَّا صفاتُه الخُلُقِيَّةِ فقد أُحْصِيت أصولُها، واستقلَّت بها أبوابٌ وفصولٌ، بل كُتُبٌ مستقلَّةٌ، مثل طول حِلْمِه وقوَّة احتمالِه وعَفْوِه صلى الله عليه وسلم، وجوُدِه وكَرَمِه، وشجاعتِه ونَجْدَتِه، وحيائِه وإغضائه، وحُسْنِ عِشْرَتِه، وشَفَقَتِه ورأفتِه، ووفائِه وحُسْنِ عَهْدِه، وتواضُعِه، وعَدلِه وأمانته، ووَقَارِه ومُروءَتِه صلى الله عليه وسلم.

ولم يقتصر هذا الشَّغَفُ بتسجيلِ حياة النبيِّ الكَريم على قُدامى المؤرِّخينَ، وكُتَّابِ المغازي والسِّير، بل امتدَّ هذا الحُب والوَلَع لمؤرخي كل عصرٍ ومِصْرٍ، ومن أواخِر عُشَّاقِ هذه السِّيرةِ المُطَهَّرةِ –فيما نَعْلَمُ-الدكتور/ صلاح الدِّين المنجِّد (ت 2010م) رحمه الله، والذي أصدر كتابًا بعنوان: «مُعْجَم مَا أُلِّفَ عن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّم»، أحصى فيه ألفين وأربعمائة وثمانية وثمانين كتابًا تخصَّصَت في تسجيلِ حياته صلى الله عليه وسلم في كلِّ جوانبها ومناحيها..

ورُغم هذه الكثرة من المؤرخينَ المسلمينَ وغيرِ المسلمينَ مِمَّن نذروا حياتهم وأفنوا أعمارَهُم في تسجيلِ سيرة نبيِّ الإسلام، والكشفِ عن أسرارِها ودقائِقها، رُغم ذلك بَقِيَ من ذخائرِ هذه السِّيرةِ الزَّكيةِ الكثير الذي تفتقِرُ إليه الإنسانيَّة اليوم، وتحتاجه احتياجَ الأعمى إلى قائد خبيرٍ بالطريقِ، بصير بمزالقِهِ ومهالِكِه.

على أنَّ ما كتبه المؤرِّخونَ واستنفدوا فيه ماءَ عُيونِهِم، هو أقلُّ قليل تُقدِّمُه البشريَّة من إجلالٍ واعترافٍ بالعَظَمةِ والعُظماءِ، وإذا كان تكريمُ العظيمِ حقًّا على النَّاسِ، أيًّا كان الزمنُ الذي يُظِلُّ هذا العظيم، أو الأرضُ التي تُقله، فإنَّه في زمننا هذا من ألزم اللَّوازم وأوْجَبِ الواجباتِ، بعد أن استبدَّت الحركاتُ السياسيَّةُ المُعاصرةُ، والمذاهبُ الاجتماعيَّةُ الحديثةُ الوافدة، بتوجيه أبنائنا وبناتنا، ودندنت لهم طويلًا على وَتَرِ «المُسَاواةِ»، وتساوي الرُّؤوس، وعَدَم التَّمايُز، حتى ظَنَّ كثيرٌ من الصِّغَارِ أنَّ لهم قامات يُساوِقونَ بها مَنَاكِبَ العُظَماءِ والمُصْلِحينَ، والعِلْيَةِ مِمَّن لا يجود الزمن بأمثالهم إلَّا واحدًا بعد واحدٍ، وعلى سبيلِ النُّدرةِ، والاستثناءِ من القاعدة ومَجرَى العادات، بل اعتقدَ كثيرٌ من المُتضَخِّمةِ نُفُوسُهم وعقولهم بالفَهْمِ المُنْحَرِف لمعنى «المُسَاواة» أنَّ مِن حقِّهم إنكارَ العَظَمةِ، وغَمْطَ العَظيمِ حقَّه، وأنَّ جديدَهُم جديرٌ بنَسْخِ القديمِ في كلِّ شيءٍ، حتى لو كان هذا القديمُ أصلًا أو جِذْرًا يَضُخُّ الغِذَاءَ، ويَهَبُ الحَيَاةَ لثمراتٍ يانعاتٍ على أغصانها، وأن هذه الثَّمرات إذا ما اجتثَّت عروقُها من جذورها لا تَلبَثُ أن تجِفَّ وتموتَ، ثم تَذْرُوها الرياح التي تَهُبُّ عليها من غَرْبٍ ومن شرقٍ، ولا مَفرَّ مع هذه الآفة التي يبعثُها الغُرور ويُثيرُها النَّزَقُ، من أن تضطربَ القِيَمُ، وتهتزَّ المَعاييرُ، وتنْبَهِمَ معالمُ الحَقَّ، وتَهبِطَ قيمةُ الضَّميرِ الإنسانيِّ إلى الحضيضِ..

وما أصدقَ ما قالَه عملاقُ الأدب العربي الأستاذ/ عباس محمود العقاد، وهو يُقَدِّمُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم في مُفتَتَحِ عَبْقَريَّة مُحَمَّد.. من أنَّ الإنسان الذي لا يرى عظمة العظيم، إنسان لا يساوي شيئًا، وأنَّ المجتمعَ الذي يضيع فيه الكبير يضيع فيه الصغير لا محالة. يقول رحمه الله: «ماذا يُسَاوِي إِنْسَانٌ لَا يَزِنُ الإِنْسَانُ العظيمُ عنده شيئًا؟ وإذا ضاعَ العظيمُ بين الناس فكيف لا يضيع بينهم الصَّغيرُ!» ولله درُّ أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته التي يَمتَدِحُ فيه الأزهرَ الشَّريفَ ويشكُرُ له قيمومَتَهُ على التُّراثِ الإسلاميِّ، الذي هو تراث إنساني، لا تزال تنهَلُ من حياضِه عظائمُ العقولِ في الشَّرقِ والغربِ حتى يومِ النَّاسِ هذا، ثم يُحَذِّرُنا مِمَّا يُسَمِّيه «عِصَابَةً مَفتُونَةً» تتنكَّرُ لكلِّ ما هو قديم، حتى كادوا يُنكِرُونَ آباءهم وأجدادَهُم لأنهم قُدَمَاء.. وأنهم مُغرَمُونَ بهدم القديم، وليس في أيدِيهِم جديدٌ يقدِّمونَه، وإذا أتوا بجديدٍ فإنما هو الرثاثةُ والضحالةُ والثرثرةُ، يقول شوقي:

لا تَحذُ حَذوَ عِصابَةٍ مَفتونَةٍ *** يَجِدونَ كُلَّ قَديمِ شَيءٍ مُنكَرا

وَلَوِ استَطاعوا في المَجامِعِ أَنكَروا *** مَن ماتَ مِن آبائِهِم أَو عُمِّرا

مِن كُلِّ ماضٍ في القَديمِ وَهَدمِهِ *** وَإِذا تَقَدَّمَ لِلبِنايَةِ قَصَّرا

وَأَتى الحَضارَةَ بِالصِناعَةِ رَثَّةً *** وَالعِلمِ نَزرًا وَالبَيانِ مُثَرْثَرا

الحفل الكريم!
إنَّ احتفالَنا اليوم بتكريم سَيِّدِنا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم هو احتفالٌ بتكريمِ العَظَمَة الإنسانيَّةِ في أعلى ذُراها وذُؤاباتِها، فقد كان صلى الله عليه وسلم عظيمًا في مَوْلِدِه، عظيمًا في حياتِه، وسياستِه وإدارتِه، وحديثِه وبلاغتِه، عظيمًا في رئاسته وفي قيادته، عظيمًا وهو أبٌ وزوجٌ وسيِّدٌ ورَجُلٌ، ثم هو عظيمٌ بالغُ العَظَمةِ في التَّاريخِ.. وقليل عليه صلى الله عليه وسلم وعلى أمثاله من عظماء الإنسانيَّة أن تُفْرَدَ المُجلَّدات الطِّوالُ لتاريخِهم وسيرهِم، وأنْ يُنْفِق مئات المؤرخين أعمارهم في تسجيل سيرهم الشريفة. وأن تحتفل الأمم بذكرى مولدهم..

وتبقى كلمة توجبها أمانة النصيحة لعامة المسلمين وخاصتهم، وهي أن هذا النبي الذي «وهب حياتَه الشريفة لنُصرةِ الحَقِّ، وصبر على الإيذاء يوما بعد يوم سنينَ عَدَدا» لَمْ يَعُد للأسفِ البالغِ هو مصدرَ التَّلقِّي والتوجيه لحياة المسلمين اليوم وقضاياهُم ومعاركِهِم الكبرى مع الفقر والجهل والمرض.. والتخلف العلمي والثقافي، وقد جَنَتْ هذه الأُمَّة من التَّنَكُّر لهَدْي نبيِّها صلى الله عليه وسلم ثمراتٍ مُرَّة، وهوانًا يصعب احتماله والصبر عليه، وكان المأمول أن تكون ذكرى مولد نبيهم تجديدًا لخيرية هذه الأمة التي خاطبها القرآن الكريم بقوله:﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ {3/110}.

وإذا كان المسلمون يخوضون اليوم معاركَ جديدة ومتنوعة من أجل التنمية والتقدم العلمي والتِّقَني والحضاري، بعد أن سُحب البساط من تحت أقدامهم لصالح حضاراتٍ أخرى، وأصبح ميزانُ العِلْمِ والتقدُّم والقُوَّة في أيدي غيرهم، فأحرى بهم أن يتوقَّفُوا طويلًا عند ذكرى ميلاده صلى الله عليه وسلم، يتأمَّلون ويقتبسون من مشكاته مشاعل على طريق النهوض، والعزيمة ومواصلة التحدِّي والصَّبرِ على الأزماتِ، فقد ترك لنا صاحبُ الذَّكرى العَطِرَة ثروة هائلة من تعاليمه ووصاياه، ونماذجَ لا مثيلَ لها من أفعاله ومواقِفِه وسُلوكه، وكان الظن أن نفيد من هذا الكنز الخُلقي، والعَقَدِيِّ، في معركتنا اليوم ضِدَّ العَجْز والتَّخلُّف، والتَّبَعِيَّة والهَوَان، حتى أصبح الباحثُ المتأمِّلُ الذي يقارِنُ بين الميراثِ النَّبوِيّ، وبين حالِ المسلمينَ الآن يَنتابُه ما يُشبِه دُوارَ الرَّأسِ من هذا الانفصام بين ما تَملِكُه هذه الأمَّة من مصادِرِ القوَّة وأسبابِ التحضُّر والانطلاق، والواقع المتواضع، بل الشديد التواضُع والذي طالَ عليه الأمدَ وأصبحَ من أهمِّ ملامحِ هذه الأُمَّة وأبرز قَسَمَاتها..

ولسنا –علم الله- من هواة تثبيط الهمم والبكاء على الأطلال، ولكنه الواقعُ الذي يصعب تجاهلُه أو غض الطرف عنه، وإلَّا فإنَّنِي –والحمد لله- مملوءٌ أملًا وثقة لا حدود لهما - في هذه الأمة، وأنها وإن أصابها الوَهْن والمرض، فإنها –بإذنه تعالى- لن تموتَ ولن تفنى، وستظلُّ حاملةً لشُعلة الحَقِّ والخَيْرِ وستبقى «خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» كما وصفها القرآن الكريم..

والأملُ – بعد الله تعالى –معقود على شباب أمتنا وشاباتها، مِمَّن نقرأُ في عيونهم بشائرَ الأملِ ومخايِلَ العَزْمِ على الخُروجِ بهذه الأُمَّةِ من حالة السكونِ والرُّكُودِ، والتصميمَ على الانطلاقِ بها في سباقِ الحضارات والرُّقي والتقدُّم، مستضئينَ بالوحي المعصُوم وبَهْديِ صاحبِ هذه الذكرى صلواتُ الله وسلامه عليه وعلى إخوته من الأنبياء والمرسلين وعلى آلهم وصحبهم أجمعين.

سيادة الرئيس!

أشكركم على الاهتمام الخاص بشبابِ مصر، وأوصي نفسي وأوصي الجميع بأن يضعوا هذا الشَّباب نصب أعينهم، فهم ثروة مصرَ وكنزُها الدَّفين، وباعثُ نهضة هذا الوطن المثقل بالهموم والآلام، لكنه مفعم بالآمال والثقة في الله تعالى..

وأختم كلمتي بتهنئتي لكم –سيادة الرئيس!- وللشعب المصري وشعوب الأمتين: العربية والإسلامية، بذكرى المولد النبوي الشريف، سائلًا المولى سبحانه أن يوفقكم لما فيه خير البلاد والعباد. وكل عام وأنتم جميعًا بخير.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.