حياة الإنسان تكون قد أصبحت خالية تماماً من المعنى، إذا فقد الناس فى بلد ما القدرة على العشق، أو الإحساس بأن الفرحة حق مشروع دائماً لجميع البشر. العكس لا يقود إلا إلى ما نحن فيه. يكفى أن أشير هنا إلى مكان يعتبره أغلب الأوروبيين متخلفاً. كل شيء يوحى بأن العرب لابد أن يكونوا قد عاشوا فيه ذات يوم من قرون. كل شىء: الدكاكين المتلاصقة كصفوف من علب الكبريت، والحانات الخافتة الأضواء التى يعكس زجاج أبوابها دخان التبغ الأسود وملامح البشر من مواطنى البحر الأبيض المتوسط. أرضياتها مغطاة بالقواقع المهشمة التى يلقى بها الزبائن بعد أن يأكلوا الحيوانات التى كانت تعيش داخلها. نداءات الباعة المتجولين وصياح النسوة الآتى من مناور البيوت القديمة والوجوه المبتسمة رغم الزحام والمطر. الروائح العالقة بالجو فى الشوارع الخلفية من عشاء الليلة الماضية، والفتارين المبهرجة كأغنية اختلطت فيها تموجات الحنجرة التركية مع نغمات البيانولا أو الماندولين. أقترب من شيخ يقف على الناصية منهمكاً فى مراقبة الطريق، كأنما هو يحصى عدد العشاق الذين يعبرون متشابكى الأيدى من أمامه. أسأله عن مطعم تتناسب أسعاره مع إمكانياتى، فيجيب بينما هو يتفحصنى بخبث: أنطونيو جيفانيلى هو أفضل من يصنع الكسكسى فى هذه الجزيرة. تعلمه من هاسان بن ألى شخصياً. هكذا نطق اسمه. لم أشأ أن أستفسر منه عمن يكون هذا الحسن بن على شخصياً. كادت السيجارة التى أوشكت على الانتهاء تسقط من زاوية فمه، عندما أشار بإصبعه إلى نقطة غير محددة خلف النخيل متمتماً: ابحث عنه هناك. تذكرت ما قاله الإدريسى فى معرض الحديث عن باليرمو: هذه المدينة تحير المتأملين فى أحوالها. العشق هو هواية هذه البلدة التى يبدو كما لو أنها مقتطعة من الحلم. العشق كان أيضاً سلاحها ضد المهاجمين، فلقد انتصرت على جميع الغزاة بالعشق. فتيات الليل يقفن فى أزقة الدعارة أمام بيوتهن ضاحكات، أو يعاكسن المارة بشقاوة بالغة الرقة، كأنهن حوريات خرجن من البحر فجأة. لا يعطين الانطباع بأنهن يتاجرن بأجسادهن بقدر ما يوحين بأن مهنتهن هى توزيع البهجة على المارة بالمجان. اشتهر الملك روجر النورماندى بسعة الأفق. لم يكتف برفض المشاركة فى الحملات الصليبية فقط. لكنه ألغى أيضاً دور البابا كوسيط بين الله والناس. إيمانه الذى لا يتزعزع بحرية الاعتقاد هو الذى سمح لجميع سكان صقلية، يونانيين كانوا أو عرباً أو بيزنطيين، بأن يتعايشوا خارج مستنقع التطرف الهمجى الذى أدى إلى الكثير من الفظائع أثناء القرون الوسطى. كنيسة القديس يوحنا، شارك المهندسون العرب فى بناء قبابها من الحجر البركانى الأسود. كذلك فلقد كان الرجل منحازاً إلى الفنون على اختلاف أشكالها، فاختلطت الزخارف التى تشبه نقوش السجاجيد الفاطمية بأيقونات الأديرة أو أسقف الكاتدرائيات. هنا عاشت الحضارات المتباينة هى الأخرى قصة عشقها الساخنة. الطريق المؤدى إلى قلب باليرمو من جهة البحر، تتناثر على جانبيه الأماكن التى تجسد عشق الحياة لدى أهل الجزيرة. ضفائر البنات التى تتلاعب بها نسمات الشتاء المتمردة، تكتب فى الهواء قصائد تحكى عن الأمسيات الشجية فى حدائق الشوق. وعلى المقاهى فى قاع المدينة، شباب من الجنسين يغنون ويرقصون ويتدفئون بتبادل عبارات الغزل. لا تشغلهم كثيراً تعليقات العاجزين عن الحب. إنهم مستغرقون فى قصصهم الخاصة خارج الزمن العادى، ولا وقت لديهم يضيعونه فى الجدل العقيم. ليس من العدل أن يظفر أبداً بالحرية من فقد القدرة على العشق، أو الإحساس بأن الفرحة حق مشروع دائماً لجميع البشر، أو من ينظر إلى الدنيا باعتبارها مجرد مكان لا يصلح إلا لانتظار الموت.