أقل من شهر.. جدول امتحانات الشهادة الإعدادية 2024 بمحافظتي القاهرة والجيزة    حملة مقاطعة الأسماك: وصلنا ل25 محافظة.. والتاجر تعود على المكسب الكبير مش عايز ينزل عنه    رئيس برنامج دمج أبناء سيناء يكشف جهود الدولة لتحقيق التنمية المستدامة    الأسهم الأوروبية تنخفض عند الإغلاق مع استيعاب المستثمرين للأرباح الجديدة    حماس تكشف عن عرض قدمته لإسرائيل لوقف إطلاق النار: مجندة أمام 50 أسيرا وأسيرة    علي فرج يواصل رحلة الدفاع عن لقبه ويتأهل لنهائي بطولة الجونة للإسكواش    صدمة قاتلة لبرشلونة بشأن الصفقة الذهبية    موقف ثلاثي بايرن ميونخ من مواجهة ريال مدريد في دوري أبطال أوروبا    الأرصاد: تسجيل مزيد من الانخفاض في درجات الحرارة غدا الجمعة    تامر عاشور وأحمد سعد يجتمعان بحفل غنائي بالإمارات في يونيو المقبل    التغيرات المناخية ودور الذكاء الاصطناعي.. لقاء ثقافي في ملتقى أهل مصر بمطروح    هالة صدقي: «صلاح السعدني أنقى قلب تعاملت معه في الوسط الفني»    تخصيص غرف بالمستشفيات ل«الإجهاد الحراري» في سوهاج تزامنًا مع ارتفاع درجات الحرارة    عضو بالشيوخ: ذكرى تحرير سيناء تمثل ملحمة الفداء والإصرار لاستعادة الأرض    بفستان أبيض في أسود.. منى زكي بإطلالة جذابة في أحدث ظهور لها    بالفيديو.. ما الحكم الشرعي حول الأحلام؟.. خالد الجندي يجيب    لماذا حذرت المديريات التعليمية والمدارس من حيازة المحمول أثناء الامتحانات؟    فيديو.. مسئول بالزراعة: نعمل حاليا على نطاق بحثي لزراعة البن    الجيش الأردني ينفذ 6 إنزالات لمساعدات على شمال غزة    الكرملين حول الإمداد السري للصواريخ الأمريكية لكييف: تأكيد على تورط واشنطن في الصراع    أنطونوف يصف الاتهامات الأمريكية لروسيا حول الأسلحة النووية بالاستفزازية    وزارة التموين تمنح علاوة 300 جنيها لمزارعى البنجر عن شهرى مارس وأبريل    المغرب يستنكر بشدة ويشجب اقتحام متطرفين باحات المسجد الأقصى    الأهلى يخسر أمام بترو الأنجولي فى نصف نهائى الكؤوس الأفريقية لسيدات اليد    عامل يتهم 3 أطفال باستدراج نجله والاعتداء عليه جنسيا في الدقهلية    تشكيل الزمالك المتوقع أمام دريمز الغاني بعد عودة زيزو وفتوح    يمنحهم الطاقة والنشاط.. 3 أبراج تعشق فصل الصيف    في اليوم العالمي للملاريا.. أعراض تؤكد إصابتك بالمرض (تحرك فورًا)    6 نصائح لوقاية طفلك من حمو النيل.. أبرزها ارتداء ملابس قطنية فضفاضة    سبب غياب حارس الزمالك عن موقعة دريمز الغاني بالكونفيدرالية    استجابة لشكاوى المواطنين.. حملة مكبرة لمنع الإشغالات وتحرير5 محاضر و18حالة إزالة بالبساتين    دعاء يوم الجمعة.. ساعة استجابة تنال فيها رضا الله    تشيلي تستضيف الألعاب العالمية الصيفية 2027 السابعة عشر للأولمبياد الخاص بمشاركة 170 دولة من بينهم مصر    بيان مشترك.. أمريكا و17 دولة تدعو حماس للإفراج عن جميع الرهائن مقابل وقف الحرب    دعاء الاستخارة بدون صلاة .. يجوز للمرأة الحائض في هذه الحالات    مدرب صن دوانز: الفشل في دوري الأبطال؟!.. جوارديولا فاز مرة في 12 عاما!    مصادرة 569 كيلو لحوم ودواجن وأسماك مدخنة مجهولة المصدر بالغربية    إصابة سيدة وأبنائها في حادث انقلاب سيارة ملاكي بالدقهلية    جامعة حلوان توقع مذكرتي تفاهم مع جامعة الجلفة الجزائرية    رد فعل غير متوقع من منة تيسير إذا تبدل ابنها مع أسرة آخرى.. فيديو    تحرير 498 مخالفة مرورية لردع قائدي السيارات والمركبات بالغربية    طريقة عمل مافن الشوكولاتة بمكونات بسيطة.. «حلوى سريعة لأطفالك»    ضبط عامل بتهمة إطلاق أعيرة نارية لترويع المواطنين في الخصوص    محافظ كفر الشيخ يتابع أعمال تطوير منظومة الإنارة العامة في الرياض وبلطيم    مشايخ سيناء في عيد تحريرها: نقف خلف القيادة السياسية لحفظ أمن مصر    أمين الفتوى لزوجة: اطلقى لو زوجك لم يبطل مخدرات    الرئيس السيسي: نرفض تهجير الفلسطينيين حفاظا على القضية وحماية لأمن مصر    مستقبل وطن: تحرير سيناء يوم مشهود في تاريخ الوطنية المصرية    أبطال سيناء.. «صابحة الرفاعي» فدائية خدعت إسرائيل بقطعة قماش على صدر ابنها    محافظ قنا: 88 مليون جنيه لتمويل المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر خلال العام الحالي    فن التهنئة: استقبال شم النسيم 2024 بعبارات تمزج بين الفرح والتواصل    هيئة الرعاية بالأقصر تعلن رفع درجة الاستعداد تزامنا مع خطة تأمين ذكرى تحرير سيناء    معلق بالسقف.. دفن جثة عامل عثر عليه مشنوقا داخل شقته بأوسيم    حدث ليلا.. تزايد احتجاجات الجامعات الأمريكية دعما لفلسطين    الفندق عاوز يقولكم حاجة.. أبرز لقطات الحلقة الثانية من مسلسل البيت بيتي الجزء الثاني    الاحتفال بأعياد تحرير سيناء.. نهضة في قطاع التعليم بجنوب سيناء    أحمد موسى: مطار العريش أصبح قبلة للعالم وجاهز لاستقبال جميع الوفود    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وجاءت سكرة الموت بالحق
نشر في الفجر يوم 07 - 06 - 2015

زفراتٌ تخرج، وحشرجاتٌ تتوالى، وأنفاسٌ تضطرب، وانتزاعٌ للروح، وآلامٌ تنوء بها الجبال، وتتلاشى عندها كلّ لذّة، وتُنسى معها ساعات الفرح، وتهون أمامها عذابات الدنيا وأنكادها، ورزاياها ومصائبُها، هي الخطب الأفظع، والأمر الأشنع، والكأس التي طعمها أكره وأبشع، هي بابٌ وكل الناس داخله، وشرابٌ علقميّ المذاق وكل امريء سيعاقره، إنه الحديث عن سكرات الموت، ووقوفٌ على معانيها وأدلتها، وأوصافها وأحوالها.
وقد سمّى الله في كتابه هذه الشدّة التي تلاقيها النفس عند انتزاع الروح بالسكرات، وهي جمع سَكْرة، والسّكرُ في الأصل كما يقول الإمام الأصفهاني: حالة تعرض بين المرء وعقله، وأكثر ما يستعمل في الشراب المسكر،يقولون: ذهب بين الصحوة والسكرة، والمعنى أنه بين أن يعقل وألا يعقل، وهي تُطلق كذلك للتعبير عن شدّة الغضب والعشق والنعاس والألم، ومن الإطلاق الأخير جاء التعبير عن شدّة الموت بالسكرات، فسكرة الموت: غشيته التي يُستدلّ بها على حلول الموت، بما فيه من الشدائد والأهوال الناتجة عن نزع الروح.
ومن المعاني المقاربة للمعنى السابق لفظ الغمرات، وهو تعبيرٌ آخر عن سكرات الموت، مفرده: غمْرة بفتح الغين، وهي الشدة، يُقال: كشفت الحرب عن غمارها: أي استبانت شدائدها، جاء في تفسير الجامع:"الغمرات جمع غمرة، وغمرة كل شيء: كثرته ومعظمه، وأصله الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها".
وتأسيساً على ما تقدّم، فإن غمرات الموت يُقصد بها الشدة المفظعة التي تغمر المحتضر وتعلوه وتستغرقه، وتغطّي عقله وتذهله.
ولا تزال آيات الله تقرع الآذان المرّة تلو المرّة كي توقظ الضمائر الغافلة فتذكّرها بهذه الحقيقة الغائبة، وتصف لهم شدّتها، وتدعوهم إلى الاستعداد لها قبل فوات الأوان، قال تعالى: { وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد} (ق:18)، والمقصود غمرته وشدته التي تغشى الإنسان وتغلب على عقله، وعندئذٍ يتضح الحق، وهو ما جاءت به الرسل من أخبار الآخرة، فينكشف الغطاء وتبدأ المعاينة لأحوال الغيب.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن معنى الآية: "جاءت بما بعد الموت من ثواب وعقاب، وهو الحق الذي أخبرت به الرسل، ليس مراده أنها جاءت بالحق الذي هو الموت؛ فإن هذا مشهور لم ينازع فيه، ولم يقل أحد: إن الموت باطل حتى يقال جاءت بالحق".
وفي قوله تعالى:{كل نفس ذائقة الموت}(آل عمران:185) دلالةٌ على أن كل المخلوقات لها مَوَتان، وأنه تعاني سكرات الموت مع اختلافٍ في درجة الإحساس بالسكرات بين مخلوقٍ وآخر كما ذكر ذلك العلماء.
ونجد في سورة الأنعام قوله تعالى: { ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون} (الأنعام:93)، وهذا وصفٌ تفصيلي للحظات انتزاع أرواح الكافرين وبيان شدّة ما يلاقونه من شدائد وأهوالٍ فظيعة، وكروب شنيعة، في حالةٍ يعجز اللسان عن وصفها وبيانها، ويكفيهم ما يرونه من شدّة الملائكة وما يستقبلونهم به من العذاب، ويوبّخونهم به من التقريع، وهي حالة لا يقدر الواصف أن يصفها، أقلّ ما يُقال فيها: " تغشاهم سكرات الموت، وينزل بهم أمر الله، ويحين فناء آجالهم، والملائكة باسطو أيديهم يضربون وجوههم وأدبارهم، كما قال جل ثناؤه: {فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم* ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه} ( محمد: 27، 28)".
وقد ضرب الله للناس المثل بحال المحتضر ، وذلك في قوله تعالى: { أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت} (الأحزاب:19)، فالآية جاءت لتصف بدقّةٍ حال المنافقين الذين يعرقلون الناس عن نصرة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ويمنعونهم عن ذلك بأقوالهم وأفعالهم، كيف يكون موقفهم من نداءات الجهاد؟ عندها ترى في أعينهم نظر الخائف المذعور الذي يحدق بعينيه إلى الجهات المختلفة يحذر أن تأتيه المصائب من إحداها، وهذه النظرات الزائغة غير المستقرّة تشبه كثيراً حال المحتضر الذي يعاني سكرة الموت، ونظير ذلك قوله تعالى: { فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت} (محمد:20)، ووجه الشبه بيان شدّة ما يلاقيه من يؤمرون بالجهاد مع المسلمين، فتراهم من شدّة الجبن، الذي خلع قلوبهم، والقلق الذي أذهلهم ينظرون إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- نظر المغشي عليه، الذي يعالج انتزاع الروح.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "من شدة الرعب الذي في قلوبهم يشبهون المغمى عليه وقت النزع؛ فإنه يخاف ويذهل عقله، ويشخص بصره، ولا يطرف، فكذلك هؤلاء؛ لأنهم يخافون القتل".
ونعرج إلى موضعين من القرآن الكريم جاء فيهما وصف لحظة خروج الروح ، يقول الله سبحانه وتعالى: {فلولا إذا بلغت الحلقوم*وأنتم حينئذ تنظرون*ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون*فلولا إن كنتم غير مدينين*ترجعونها إن كنتم صادقين} (الواقعة:83-87)، ففي هذه اللحظات التي يكابد فيها المرء سكرات الموت، تخرج روحه من حلقه، وتتلقّفها الملائكة الذين لا نراهم، ولن يستطيع أولئك الذين ينكرون يوم البعث والجزاء ولا غيرهم أن يردّوا النفس إلى الجسد مهما تقدّمت علومهم، فإن ذلك محال، وبنحو هذا المعنى جاء قوله تعالى: {كلا إذا بلغت التراقي*وقيل من راق*وظن أنه الفراق} (القيامة:26-30).
وفي سورة النازعات وردت أوصافٌ تتعلّق بالملائكة الذين أوكلوا بهذه السكرات، قال تعالى:{والنازعات غرقا*والناشطات نشطا } (النازعات:1-2)، فالنزع الشديد لأرواح الكافرين، والأخذ اللين لأرواح المؤمنين واستلالها برفق وسهولة.
وفي قوله تعالى:{ وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون*ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين} (الأنعام:61-62)، وقوله سبحانه:{ قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون} السجدة:11)، بيانٌ أن ملك الموت موكلٌ من خالقه تبارك وتعالى بمهمّة قبض الأرواح واستلالها من الأجسام وإخراجها منها، يساعده في ذلك عددٌ آخر من الملائكة.
وإذا انتقلنا إلى السنّة فإننا نجد فيها الوصف الشامل من النبي –صلى الله عليه وسلم- لشدّة السكرات، خصوصاً إذا كانت من الكافر، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت، حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتفرّق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض) رواه أحمد، والسفود هو حديدة ذات شعب وأطراف ملتوية تُستخدم عند شواء اللحم، والمقصود أن انتزاع تلك الروح شديد كحال انتزاع الحديد ذي الشعب الكثيرة من الصوف المبلول، فيستصحب عند الجذب شيء من ذلك الصوف مع قوة وشدة، بخلاف خروج روح المؤمن من جسده والذي يشبه في سهولته ولطفه رشح الماء وسيلانه من القربة المملوءة ماء، والمرجع في إثبات هذه السهولة قوله عليه الصلاة والسلام في ذات الحديث: (فتخرج –أي روحه- تسيل كما تسيل القطرة من فيّ السقاء) أي فم القربة.
ولعل من المناسب هنا بيان مسألة الشدّة في سكرات الموت وعلاقتها بالإيمان والكفر من خلال الأحاديث الواردة حتى لا يُفهم منها التعارض، فبمقتضى الحديث السابق فإن الأصل في احتضار الكافر الشدّة، والأصل في احتضار المؤمن السهولة واليسر، ويُستثنى من هذا الأصل أن تحصل الشدّة في انتزاع الروح للمؤمن تكفيراً لسيئاته، وتعظيماً لدرجاته، وإعلاءً لمكانته.
ويشهد للاستثناء المذكور آنفاً قول زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إذا بقي على المؤمن من ذنوبه شيء لم يبلغه بعمله، شُدد عليه الموت ليبلغ بسكرات الموت وشدائده درجته من الجنة"، وروي بهذا المعنى حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (الموت كفارة لكل مسلم) رواه البيهقي في شعب الإيمان، والحديث على الرغم من عدم ثبوته من ناحية الصنعة الحديثيّة إلا أن عمومات الأدلّة تبيّن أثر البلاء في تكفير السيئات التي يرتكبها المؤمن، كقوله –صلى الله عليه وسلم-(ما من مسلم يصيبه أذى، شوكة فما فوقها، إلا كفر الله بها سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها) متفق عليه واللفظ للبخاري، وقوله عليه الصلاة والسلام: (من يرد الله به خيرا يصب منه) رواه أحمد.
وفي ضوء التقرير السابق يمكننا فهم ما قاساه الأنبياء من شدّة هذه السكرات، ولنا في رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عبرة، فإنه وإن كان سيد الخلق وحامل لواء الحمد وصاحب الحوض والشفاعة، وأقرب من دنا إلى الرب تبارك وتعالى حسّاً ومعنى، إلا أنه ذاق من ذات الكأس المريرة، تروي لنا عائشة رضي الله عنها تلك اللحظات فتقول"إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان بين يديه ركوة – أي علبة فيها ماء-فجعل يدخل يديه في الماء، فيمسح بهما وجهه، ويقول: (لا إله إلا الله، إن للموت سكرات) رواه البخاري.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: لما وجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كرب الموت ما وجد، قالت فاطمة: واكرب أبتاه، فقال لها عليه الصلاة والسلام: (لا كرب على أبيك بعد اليوم، إنه قد حضر من أبيك ما ليس بتارك منه أحدا، الموافاة يوم القيامة) رواه ابن ماجة.
ويبيّن الإمام الطحاوي أن للتشديد الموت على الأنبياء فائدتان:
إحداهما: تكميل فضائلهم ورفع درجاتهم، وليس من باب العذاب والمجازاة، واستدلّ بالحديث الصحيح القائل: (أشد الناس بلاء في الدنيا الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل) رواه البزار بهذا اللفظ وأصله في السنن، فالشاهد أن الله سبحانه وتعالى أحب أن يبتليهم لكمال رفعتهم، مع رضاهم بجميل ما يجزي الله عليهم، فأراد الحق سبحانه أن يختم لهم بهذه الشدائد، مع إمكان التخفيف والتهوين عليهم، ليرفع منازلهم، ويعظم أجورهم قبل موتهم.
الثانية: أن يعرف الخلق أن ألم الموت وشدّته حاصلةٌ ولو لم تظهر على العصاة والمذنبين المستحقّين لها، فإن بعض الكفرة أو العصاة قد يموتون فلا يُرى عليهم أثر النزع، ويظنّ الظانّ سهولة أمر الموت، فكان من الحكمة الإلهيّة تقدير شيء من هذه الشدّة على بعض أنبيائه، ليكون إخبارهم عنها مع كرامتهم على الله تعالى دليلاً قاطعاً على هذه السكرات لإخبار الصادقين عنه، وبياناً أن ألم الموت قد لا يكون ظاهراً للعيان، وخفاؤه لا يعني بالضرورة انتفاؤه.
وتدلّ الأحاديث أن الغلمان والصبيان يعانون شيئاً من سكرة الموت ولو كان بصورة أخفّ، يدلّ عليه أن ابنة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرسلت إليه أن ابنها في لحظاته الأخيرة فتحب أن يأتيه،فلما جاء عليه الصلاة والسلام رُفع إليه الصبي ونفسه تقعقع في صدره وتصدر صوتاً يدلّ على النزع، حتى فاضت عينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، رواه ابن حبان.
أما أسعد الناس في الموت فهم الشهداء عند ربّهم، فقد ثبت في السنة عن أبي هريرة رضي الله عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما يجد الشهيد مس القتل، إلا كما يجد أحدكم من القرصة) رواه أصحاب السنن غير أبي داوود .
وقد جاء في تراجم الصالحين وصفٌ لشدّة الموت، قال عبدالله بن عمرو بن العاص: كان أبي كثيراً ما يقول: إني لأعجب من الرجل الذي ينزل به الموت ومعه عقله ولسانه، فكيف لا يصفه؟. ثم نزل به الموت ومعه عقله ولسانه، فقلت: يا أبت، قد كنت تقول: إني لأعجب من رجل ينزل به الموت ومعه عقله ولسانه كيف لا يصفه؟، فقال: يا بني، الموت أعظم من أن يوصف، ولكن سأصف لك منه شيئاً، والله كأن على كتفي جبل رضوى، وكأن روحي تخرج من ثقب إبرة، وكأن في جوفي شوكة عوسج –نباتٌ كثير الشوك-، وكأن السماء أطبقت على الأرض، وأنا بينهما"
وقال كعب الأحبار: "إن الموت كغصن كثير الشوك أدخل في جوف رجل، وأخذت كل شوكة بعرق، ثم جذبه رجل شديد الجذب، فأخذ ما أخذ وأبقى ما أبقى".
وعندما حضرت أبا بكر - رضي الله عنه - الوفاة، أنشدت عائشة رضي الله عنها :
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
فقال لها أبو بكر رضي الله عنه: "لا تقولي ذلك، ولكنه كما قال الله عز وجل: {وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد} (ق:18).
وعن شداد بن أوس -رضي الله عنه- قال: "الموت أفظع هول في الدنيا والآخرة على المؤمنين، والموت أشد من نشر بالمناشير، وقرض بالمقاريض، وغلي في القدور، ولو أن الميت نُشر، فأخبر أهل الدنيا بألم الموت، ما انتفعوا بعيش، ولا لذّوا بنوم".
وقال عمر بن صبيح السعيدي: "رأيت عبد العزيز بن سليمان العابد في منامي بعد موته، وعليه ثياب خضر، وعلى رأسه إكليل من لؤلؤ، فقلت له: يا أبا محمد، كيف كنت بعدنا؟ وكيف وجدت طعم الموت؟ وكيف وجدت الأمر هناك؟ فقال: أما الموت فلا تسأل عن شدة كربه وغمه، ولكن رحمة الله تعالى سترت منا كل عيب، وما نلتها إلا بفضله".
وأخيراً: فإن العاقل من استعدّ لهذه اللحظة المفزعة، وقدّم من الأعمال ما يخفّف عنه شدّة النزع، ولم يغترّ بالدنيا ويلتهي بها:
ماذا تؤمل والأيام ذاهبة ومن ورائك للآمال قطاع
وصيحة لهجوم الموت منكرة صمت لوقعتها الشنعاء أسماع
وغصة بكؤوس أنت شاربها لها بقلبك آلام وأوجاع
يا غافلا وهو مطلوب ومتبع أتاك سيل من الفرسان دفاع
خذها إليك طعانا فيك نافذة تعدي الجليس وأمر ليس يسطاع
إن المنية لو تلقى على جبل لأصبح الصخر منه وهو مياع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.