تحدث عملاق التاريخ قبل رحيله، بكل وضوح وصراحة، عن شخصيته الوضاحة، وحكى عيوبه قبل مميزاته، ولم يصور نفسه فى صورة المناضل أو البطل، بل عرفناه فى لحظات ضعفه، قبل قوته، وتمرده. ولقد حاولت جاهدا أن أكتب عن كل التحولات الحياتية، والإجتماعية، والنضالية، والسياسية، التى شهدتها حياته، فدائما ما أجد نفسي محصورا، أمام الزعيم، العاشق لوطنه، والأب، والرجل المهزوم، والمناضل المنتصر، وزعيم السلام، وأسير الظلام، الذي قدم واجبه ببراعة، ونجح فى تحقيق أهدافه، وتفعيل مبادئه، التي سعى لها فى بداية حياته، وإنتصر لها بشدة ذكائه، قبل نهاية حياته، بصبره، ومصابرته، وكيف تحولت سياسته إلى العنف والمقاومة، عندما فشلت كل الطرق السلمية فى التفاوض مع النظام العنصري، وكيف غير السجن نظرته، التى صارت أكثر هدوءا، ورصانة، وحكمة، وصولا إلى اليوم الذي طال بعده، وبعد أمده، وتحقق فيها الحلم، والسلم، وصار عملاق التاريخ، أول رئيس أسود منتخب، بعد أن تحررت بلاده من العنصرية، ويحق لنيلسون مانديلا أن يفخر بنفسه، وأدائه الرفيع، والذى تمكن من خلاله، أن ينتصر للحق، وينتفض للظلم، ويسعى للنضال، ويهزم الضلال، ويهدم الفساد، ويبنى الأمجاد، ويثأر للأجداد، ويؤسس للأحفاد. ترك ورائه إلهاما كبيرا لشعوب العالم جميعا، لم يكن زعيما سياسيا فقط، بل كان إنسانا من الطراز الأول، ومواصفات الرعيل الأول، والصف الأول، والرابح الأول. كان درة نادرة، وندرة عامرة، وماسة نفيسة، كأحفاد السيدة نفسية، وياقوتة، كقنبلة أخلاق موقوتة. تزخر حياته بآلاف من التفاصيل الإنسانية، والخبرات السياسية، والدروس العصامية، والمواعظ السامية، التى تحمل عبرا، لو تأملها الحاكم العربي، وعاد وتأملها، فأعاد النظر كرتين، ثم عاود النظر مرات وكرات، بعيدا عن غيبة السكرات، وسياسة العاهرات، ونظرة الساقطات، في لجنة السياسات، بالحزب الوطني بؤرة الإخفاقات، وديوان زكريا عزمي رمز الفسادات، ومبارك وأعوانه رموز الإفسادات، لو تأملها، لتغيرت الظروف، وقل العزوف، وقدم زعماء الأمة كثيرا من المعروف، وكسروا الحواجز والصفوف، وإختفت السيوف، وإنقرض الملوتوف، وتحولت فلسفة الحكم إلى ملحمة في الحرية والعدالة والكرامة، لشعوب مازالت ترضخ تحت وطأة الظلم، والظلام، فوجب أن يكون مانديلا ملهما للإنسانية، ومسهما في الحياة السياسية، ومنهلا للروح الوطنية، بل يجب أن يتنافس الحكام، لإزالة الركام، وإقامة الوئام، والسلم، والسلام، والعدل، والأمان. إن الحرية والديمقراطية التي تحظى بها جنوب أفريقيا الآن، تعد بمثابة إرث تركه الزعيم الراحل "عملاق التاريخ"، الذي أدرك أن العنصرية، والكراهية، والبغضاء، والنفوس الصماء، والعيون العمياء، والعقول الجرداء، والقلوب السوداء، والضمائر الصفراء، هى التى تسبّبت فى سجنه سنوات صماء، فإتخذها عدواً لدُوداً، وليس صديقا ودودا، فقرر أن تكون حربه على المرض لإستئصاله، وليس على المريض لقتله، فقال: «عند خروجى من السجن أدركت أنّى إن لم أترك كراهيتى خلفى فإننى سأظل سجيناً» «كنت على علم بأن الناس يتوقعون منّى شعوراً بالحَنَق تجاه البيض، لكننى لم أكن أحمل ضغينة نحوهم إطلاقاً. لقد خفّ حَنَقى تجاه البيض داخل السجن، ولكن بُغضى للنظام العنصرى تضاعف. كنت حريصاً أن تعلم جنوب أفريقيا أننى أُحب حتى أعدائى، مع كراهيتى للنظام الذى خلق تلك العداوة بيننا». وقال: "لم أكن معجبا بعنف الملاكمة بقدر إعجابي بالتقنية، وراءها ما كان يثير إهتمامي كيف يمكن للمرء التحرك لحماية نفسه، وبكيفية إستخدام إستراتيجية الهجوم، والإنسحاب، وكيف يمكن للمرء أن ينظم نفسه طوال المباراة" "الملاكمة تساوي بين الجميع، في الحلبة ينتفي السن، والطبقة، واللون، لم أمارس الملاكمة بعد دخولي عالم السياسة، كان إهتمامي الرئيسي هو التدريب، وجدت أن المواظبة على التمرين يحد من التوتر، بعد تدريب مشدد، كنت أشعر بالخفة جسديا وعقليا".
لقد نجح العملاق مانديلا في تعليم الكون برمته، كيفية التضحية من أجل المعتقدات، والأهداف، والمبادئ، والمثل العليا، والسيطرة على الغضب، عملا بقول النبي: إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب، وتوجيه الطاقة السلبية الناجمة عن الغضب، إلى أفعال منظمة، بتاريخه، وكتابه الذي علم العالم، فضلا عن الإستعداد النفسي، لتقبل تداعيات ما يتخذه الإنسان من قرارات. لقد أدرك عملاق التاريخ، أنه لا يمكن إحتواء الأفكار، والمعتقدات، داخل ظلمات السجون، أو إخمادها داخل المسجون، وذلك ما دفعه إلى إستثمار سنوات سجنه، بإستئصال قنوات خصمه، وتثبيت سلمه، وتنقيح عقله، وتطوير حججه. وبعد غياب الليل، وكثرة السيل، وطول الهجر، بزغ الفجر، وطلع النهار، وإزدادت الأنهار، دون إنبهار، وخرج من السجن واحدا من الشطار، وعملاق التاريخ، وبطل التأريخ، مانديلا. وهنا يحضرني عندما سارع حضرة النبي (ص) إلى قبول صلح الحديبية، رغم شروطه الجاحدة، وذلك لنقل الصراع من مرحلة العنف المسلح، إلى مرحلة السلم المنقح، وواجه من عارض الصلح من أصحابه بحزم وحسم. كما أصدر حضرة النبي، عفواً عن المجرمين الذين أهدر دمائهم، فكان ممن عفا عنهم، (عكرمة بن أبى جهل)، ونهى المسلمين عن ذكر أبيه بسوء، رعاية لمشاعره، رغم أن أباه كان أشدّ الناس عداوة وبغضاء للنبى وأكثرهم تحريضاً على قتال المسلمين. حقا: (وإنّكَ لَعلى خُلقٍ عظيمٌ). وكذلك يحضرني قول النبي، يوم إنتصاره لكُفّار قريش، الذين عذبوه وعذبوا أصحابه: «إذهبوا فأنتم الطلقاء»، فكان ذلك سبباً فى دخولهم الإسلام، وإسهامهم فى نشر قِيَمه السامية فى أرجاء العالم. لأجل هذه القيم، أحب العالم «مانديلا» وتأثروا به حياً وميتاً، وبهذه القيم، يمكن أن يكون لنا دَورٌ حقيقى فى نفع البشرية جمعاء، بدونها لن يكون لنا قيمة فى الدنيا، ولا كرامة فى الآخرة.. وأخيرا على الزعماء العرب، أن ينتبهوا، ويتنبهوا، ولا يتباهوا، ولا يهابوا إلا الله، ويتعلموا من الدروس المستفادة من تاريخ عملاق التاريخ، وملك التأريخ، نيلسون مانديلا. المتحدث الرسمي بإسم النادي الدبلوماسي الدولي Diplomatic Counselor Sameh Almashad