من كلام الخالق عز وجل وبلاغة قوله في الذكر الحكيم؛ القرآن الكريم، نغوص في تفاصيل الحروف ونبحر في كمال المعاني، لنرسم لقرائنا الأعزاء أجمل الصور الكتابية على هيئة أسرار ربانية بديعة. هذه الأسرار التي نستشفها من آيات قرآنية، تجسد بجمال تعابيرها واكتمال معانيها، كل ما لا يستطيعه بشر ولا يقوى عليه مخلوق. فيها تجد الكلمة الأوفى والصورة الأنقى والإعجاز الأبقى، فيها أيضاً القول الفصل لكلام الخالق ذي الكمال، فليس أبلغ من كلام الله عز وجل قولاً. هو أصدق الحديث كلاً وجزءاً، وهو أوفى فاتحة وأكمل خاتمة، إنه القرآن الكريم الكتاب المحفوظ الذي لا ينقص تلاوة وإبحاراً واستزادة في العلم والنور؛ ولقارئه السرور. «بديع الأسرار» محطة رمضانية ارتضيناها لكم من أنوارنا «أنوار رمضان»، لنمتع العقول ونقنع القلوب، بكلمات ربانية تتجلى فيها كل المسميات الحصرية؛ فيها الجمال والكمال والمثال، والإيحاء والوفاء والبناء؛ والتمام ختام.
عقد الزركشي في كتابه «البرهان في علوم القرآن» فصلاً طويلاً في علم المتشابه اللفظي، والذي عرَّفه بقوله: (هو إيراد القصة الواحدة في صورٍ شتى وفواصل مختلفة، ويكثر في إيراد القصص والأنباء، وحكمته التصرف في الكلام وإتيانه على ضروبٍ ليُعلِمَهم عجزهم عن جميع طرق ذلك..) وبعد أن عرَّف المتشابه اللفظي قسَّمه إلى فصول مختلفة، منها: أن يكون الكلام في موضع على شكل معين وفي آخر عكسه، ومنه قوله تعالى (والنصارى والصابئين)(البقرة62) وجاء في موضع آخر (الصابئين والنصارى)(الحج17). والتقديم والتأخير، ومنه قوله تعالى (لعباً ولهواً)(الأنعام70)، وجاء في موضع آخر (لهواً ولعباً)(الأعراف51).
أل التعريف
علاوة على ما ذكر، التعريف والتنكير، كقوله تعالى: (ويقتلون النبيين بغير الحق)(البقرة61)، وجاء في موضع آخر: (ويقتلون النبيين بغير حق)(آل عمران21). الجمع والإفراد، كقوله تعالى: (إلا أياماً معدودة)(البقرة80) وجاء في موضع آخر: (إلا أياماً معدودات)(آل عمران24). إبدال حرف بحرف غيره، كقوله تعالى: (فكلوا منها)(البقرة58)، وجاء في موضع آخر: (وكلوا منها )(الأعراف161). إبدال كلمة بأخرى، كقوله تعالى: (ما ألفينا عليه آباءنا)(البقرة170)، وجاء في موضع آخر: (ما وجدنا عليه آباءنا)(لقمان21)
والزركشي في أثناء ذكره لهذه الأقسام يحاول توجيه تلك المتشابهات. علماً أنه قد سبقه إلى هذا علماء كبار، منهم الكسائي في رسالته «المتشابه في القرآن»، وكذلك ابن المنادي في كتابه «متشابه القرآن العظيم»، والخطيب الاسكافي في كتابه «درة التنزيل وغرة التأويل»، وابن الزبير في كتابه « ملاك التأويل» وهو من أجلِّ ما كُتِب في توجيه المتشابه.
آيات متشابهة
ويحسن بنا بعد أن ذكرنا هذه الخلاصة المتعلقة بهذا العلم الجليل أن نضرب مثالاً فيه جملة من الفصول التي أشار إليها الزركشي، هذا المثال يبين أهمية توجيه الآيات المتشابهة.
الآية الأولى هي قوله تعالى: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغداً وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين)(البقرة58)
والآية الثانية هي قوله تعالى: (وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجداً نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين)(الأعراف161)
إنَّ المتأمل لهاتين الآيتين يلاحظ اتفاقهما في الألفاظ من حيث الجملة، كما يلاحظ أيضاً وجود بعض الاختلافات اللفظية، وسوف نحاول هنا أن نرصد تلك الاختلافات ومدى تأثيرها في المعنى.
الإلزام
أولاً: قال تعالى في البقرة: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية)، وقال في الأعراف (وإذا قيل لهم اسكنوا هذه القرية). فلماذا عبر في البقرة بالدخول وفي الأعراف بالسكنى ؟!!
(الجواب) إن ذكر الدخول في سورة البقرة لا يلزم منه السكنى، وذكر السكنى يلزم منه الدخول، فلا يمكن أن تسكن في مكان إلا إذا كنت داخلا فيه، لذلك عبر في البقرة بالدخول وهو ما أمرهم الله عزَّ وجل به ابتداءً، وجاء البيان في سورة الأعراف بأن المراد به السكنى، وتبين وجه ورود العبارتين على الترتيب.
ثانياً: قال تعالى في البقرة: (فكلوا منها)، وقال في الأعراف: (وكلوا منها). فلماذا كان العطف في البقرة بحرف الفاء (فكلوا) أما الأعراف فجاء العطف بالواو (وكلوا)؟!!
(الجواب) لما عبر في البقرة بالدخول جاء بالفاء التي تفيد التعقيب لأن الأكل لا يكون إلا بعد الدخول فلا يكون قبله ولا معه فجاء العطف بالفاء، ولما عبر في الأعراف بالسكن الذي يكون الأكل قبله وأثناءه وبعده جاء العطف بالواو التي تدل على مطلق الجمع والله أعلم.
الاستمرار
ثالثاً: قال تعالى في البقرة:( حيث شئتم رغداً)، وقال في الأعراف:( حيث شئتم)، فلماذا زاد في البقرة كلمة (رغداً)، وقال في الأعراف (حيث شئتم) بحذفها ؟!!
(الجواب) لما عبر في البقرة بالدخول الذي لا يدل على السكن والإقامة اقتضى السياق زيادة هذه الكلمة التي تدل على الدوام والاستمرار، ولما عبر في الأعراف بالسكن الذي يدل على الاستمرار والدوام لم تذكر هذه الكلمة لحصول معناها من السكنى والله أعلم.
التقديم والتأخير
رابعاً: قال تعالى في البقرة: (ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة)، وقال في الأعراف: (وقولوا حطة وادخلوا الباب سجداً)، فما السر في التقديم والتأخير ؟!!
(الجواب) أن قولهم (حطة) دعاء أمرهم الله به في سجودهم، فلو جاء في السورتين على نسق واحد لأوهم أن قولهم حطة وفعلهم للسجود أمران منفصلان، فجاء التقديم والتأخير ليتبين أن المراد أن يكون هذا القول حال السجود لا قبله ولا بعده، وقدم في البقرة السجود لشرفه وتقدمه على القول، وجاء في الأعراف بالعكس ليبين اقترانهما، والله أعلم.
اختلاف الجمع
خامساً: قال تعالى في البقرة: (خطاياكم) وقال في الأعراف: (خطيئاتكم)، فما السر في اختلاف الجمع بين الآيتين ؟!!
(الجواب) إن كلمة (خطاياكم) جمع كثرة، والسياق في سورة البقرة مبني على تعداد النعم، وأما الجمع بالألف والتاء (خطيئاتكم) فهو جمع قلة، وسياق سورة الأعراف لم يبن على تعداد النعم، فجاء كلٌ منهما على ما يناسب المقام.
سادساً: قال تعالى في البقرة: (وسنزيد المحسنين)، وقال في الأعراف: (سنزيد المحسنين)، فما السر في زيادة الواو في البقرة، وحذفها في الأعراف ؟!!
(الجواب) إن آيات البقرة سبقت بتفصيل النعم والآلاء التي أنعم الله عزَّ وجل بها على بني إسرائيل، وما امتن الله عليهم من العفو عن الزلات وإقالة العثرات، فناسب ذلك زيادة الواو التي تفيد العطف. أمَّا آية الأعراف فلم يرد قبلها ما يدل على تعداد النعم، فناسب المقام حذف الواو، والله أعلم.
وهذا المثال يبين لنا مدى أهمية هذا المبحث من مباحث التفسير، ومن أراد الاطلاع على المزيد من أوجه التشابه في آيات القرآن وتوجيهها، فما عليه إلا مراجعة كتب التفسير، وكذلك الكتب التي أشرنا إليها في مقدمة الكلام. وفي الختام نسأل الله عز وجل أن يفقهنا في الدين وأن يعلمنا التأويل.