في الوقت الذي كان يعلن فيه عن اسم الرئيس الفائز بأول انتخابات رئاسية تعقب الثورة المصرية يوم الأحد الماضي، كنا نتابع مع مجموعة من السينمائيين والاعلاميين فعاليات أول ندوة تقام ضمن فعاليات الدورة الخامسة عشر من مهرجان الاسماعيلية السينمائي الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة. هذا أول مهرجان سينمائي يعقد في ظل رئاسة محمد مرسي...وأين؟ في مدينة الاسماعيلية مسقط رأس حسن البنا مؤسس جماعة الأخوان! التوقيت لم يكن مقصودا، من 23 إلى 28 يونيو 2012، ولكن لأسباب إقتصادية وإدارية تتعلق بالميزانية المخصصة له من قبل وزارة الثقافة، كان لا بد من إقامة المهرجان قبل نهاية الشهر السادس من العام. الكثيرون أعربوا عن خشيتهم من تزامن المهرجان مع انتخابات الرئاسة، ومن اضطراب الأوضاع عموما في مصر، ولكن رئيس المركز القومي للسينما المخرج مجدي أحمد علي رفض الاستماع إلى هذه الأصوات وخاض ما يشبه المعركة من أجل عقد المهرجان. كان ينتظر أن يدافع أصحاب الشأن عن إقامة المهرجان كما يحدث في الدنيا كلها. فحتى لو رأت الحكومة المركزية للدولة الغاء أو تقليص النشاط في أقليم أو محافظة ما المنطقي أن تنتفض هذه المحافظة ومحافظها وسكانها وتتمسك بإقامة النشاط دفاعا عن اسم المحافظة وسمعتها وحق أبنائها في التمتع بهذا النشاط. لكن المصيبة هنا أن محاولات الالغاء جاءت من المحافظة واللواء المحافظ الذي رفض دعم المهرجان بأي صورة من الصور، ولو حتى بعض عربات المحافظة وموظفيها الذين كانوا دائما ما يساعدون بأي شئ حتى لو كان مرافقة الضيوف والقائمين على المهرجان في الانتقالات واصطحابهم إلى أماكن العروض والاقامة! هذا العام لم تكتف المحافظة باللامبالاة والاستقبال الفاتر للمهرجان، ولكنها حاولت منع إقامته، وقد تعتقد أن السلفيين أو الأخوان نصبوا محافظا لهم في الاسماعيلية، ولكنك ستفاجأ أن المحافظ كما هو! الحقيقة أن المشكلة ليس لها علاقة بالانتخابات أو "اضطراب" الأوضاع، فالحجج لالغاء النشاطات الفنية والثقافية لا تتوقف منذ عهد المخلوع، وقد شهدت الاسماعيلية على يد محافظين سابقين من اللواءات أيضا الغاء مهرجان الفنون الشعبية الذي كان واحدا من أهم المهرجانات الدولية في مجاله، كذلك تعرض مهرجان السينما لمضايقات عديدة، بالرغم من أنه مخصص لنوعية تختلف عن الأفلام الروائية الطويلة التي تثير غرائز وسخط المتطرفين عادة! المحافظون عادة ما يكرهون النشاطات الفنية والثقافية لأسباب معروفة على رأسها "راحة البال" من القلق والمشاكل التي قد تتسبب فيها هذه النشاطات سياسيا، ومغازلة المتطرفين دينيا أو تجنب وجع الدماغ الذي يتسببون فيه، وغالبا لأنهم مثل معظم المصريين يعتقدون أن الفن والثقافة زوائد اجتماعية دودية لا أهمية ولا وظيفة لها، وأن الأفضل لو ركز المرء على أكل عيشه ومدارس أولاده! وبعيدا عن "الأيد الواحدة" العسكرية والدينية التي تكره السينما، فمن المؤكد أن إقامة المهرجان هذا العام لا يمثل فقط انتصارا على هذه اليد، ولكنه انقاذ لمستقبل المهرجان أيضا، لأن عدم إقامة هذه الدورة كان يمكن أن يستغل لالغاءه تماما بحجج لن يعجز الراغبون عن اختراعها، بينما إقامته ونجاحه في مثل هذه الظروف سيكون أبلغ رد على هذه الحجج المشبوهة. وبما أن نصف المقال تقريبا ضاع في الحديث عن أهمية النشاطات الفنية بدلا من الكلام عن النشاط نفسه، فسوف أنتقل إلى عرض بعض ملامح المهرجان في دورته الحالية. المهرجان الذي كان يقام في نهاية أكتوبر وأول سبتمبر انتقل إلى يونيو، ولذلك سعى مديره الناقد أمير العمري خلال هذه الفترة القصيرة أن يجلب أكبر عدد ممكن من الأفلام الجيدة من أنحاء العالم، وهي مهمة صعبة خاصة أن عددا كبيرا من الضيوف وأصحاب الأفلام اعتذروا عن الحضور. المهرجان انتقل أيضا من اقامة الضيوف في "القرية الأوليمبية" النائية عن المدينة إلى فنادق وسط البلد، ومن إقامة العروض في قصر ثقافة الاسماعيلية إلى قاعتين من دار عرض "رينسانس" التجارية. خطوتان جريئتان وفي غاية الأهمية، ولكن نظرا لأنها الدورة الأولى منذ زمن بعيد التي يغير فيها المهرجان أماكن عروضه وضيوفه، فقد تسبب ذلك في عدة ارتباكات تنظيمية. وبما أن الثورة تفرض نفسها على كل شئ، فقد كان من البديهي أن يخصص المهرجان برنامجا وندوة وكتابا لأفلام الثورة...ومن البديهي أيضا أنها لاقت الاهتمام الأكبر من الضيوف والجمهور. مع ذلك فمفاجأة هذه الدورة كانت ثلاثة أفلام قصيرة عرضت في حفل الافتتاح، من صنع نابغة السينما المصرية الراحل شادي عبد السلام. هذه الأفلام، أو بالأحرى مقاطع من الأفلام، لم يسبق عرضها ولا مشاهدتها، وقد قام بترميمها ومونتاجها الباحث مجدي عبد الرحمن، أحد تلاميذ، ودراويش شادي عبد السلام المخلصين! الخطأ كان عرض هذه الأفلام في عرض الافتتاح لعدة أسباب، منها أن جمهور الافتتاح عادة ما يضم مواطنين عاديين من سكان المحافظة وضيوف أجانب، وكلاهما لم يجد شيئا في هذه الأفلام يستحق المشاهدة، وكان الأفضل بالقطع عرضها في إطار ندوة عن شادي عبد السلام وعن اكتشاف واعداد هذه المواد الفيلمية للعرض. الملحوظة الأخيرة هي غياب أهالي الاسماعيلية وشباب السينمائيين عن نشاطات المهرجان، وهذه مشكلة مزمنة في المهرجانات المصرية عموما، خاصة تلك التي تقام خارج القاهرة مثل الأسكندرية والاسماعيلية والأقصر. ولا أمل يرجى من هذه المهرجانات إلا ببذل جهد مضاعف لدعوة جماهير المدينة، خاصة الشباب، للمشاركة في هذه الأنشطة بالفرجة والتنظيم، وكذلك الاصرار على وجود فريق عمل دائم من أبناء المحافظة يعمل طوال العام، أو معظمه، لتكوين نواة من عشاق السينما، وقد لاحظت كالعادة أن المدينة تزداد شبابا وحيوية باستمرار، ولكن هؤلاء الشباب وحيويتهم واهتمامهم بالسينما يظلون بعيدين عن المهرجان. أعرف أنها مهمة صعبة، ولكنها الهدف الأساسي الذي يجب أن يسعى إليه أي مهرجان...وكل ما عدا ذلك فهو أشبه بالحرث في الماء، أو الآذان في مالطا!