لم تكن المرة الأولى التي أخوض فيها تلك المعركة، كنت قد تعودت على ذلك بحكم مصريتي.. الشطارة ليست فقط في النجاح باللحاق بالأتوبيس، بل كل الفكاكة والنباهة في إنك "تلاقي مكان تحط رجلك فيه جوه الأتوبيس".. وهذا ترف لا يضاهيه ترف ورفاهية لا ينالها كثيرون من المعذبين في طرقات العاصمة. ثم إن الأتوبيس في مصر لا يقتصر على كونه وسيلة للمواصلات، إنه مجتمع متكامل تتجسد فيه شخصية مصر بكل ما تحمله من تناقضات، فالشهامة تبلغ ذروتها في أن تفسح المجال لسيدة حتى لا يحتك بها الرجال، أن تقوم من مقعدك الملوكي وتنضم إلى معجنة المزدحمين في طرقة الأتوبيس من أجل أن تجلس سيدة، والوقاحة تبلغ منتهاها في التحرش والألفاظ النابية التي لن تمنع أذنك من سماعها.. إنها مقررة عليك يوميا إذا كنت من رواد الأتوبيس وما باليد حيلة. الأتوبيس في مصر حكاية "شعب مطحون جوه بلده"، حكاية غربة مواطن في وطنه، قصة قائد ديكتاتور اعتاد على كسر القانون، اعتاد على السير في الطريق خطأ كان أو صحيحا لا يهم، المهم أن يصل لمبتغاه بأسرع وقت ممكن، والأهم "إنك هتدفع يعني هتدفع" سواء حصلت على حقك كاملا بالجلوس في مقعدك والوصول إلى مكانك، أو منقوصا بأن كنت "متشعبط وكملت نص الطريق مشي"، مع العلم بأنك قضيت ربعه "جري ورا الأتوبيس"، وحينما يخاطب القائد رئيس حكومته – الكمسري – لا يسأله إلا عن الأجرة، ولا يتفوه إلا بكلمات معلومة "اللي طلع يبعت" و "الأجرة ورا يا بهوات"، لكن السؤال عن راحة الركاب أو مين عايز يروح فين ليست في قاموس رئيس جمهورية الأتوبيس. الأتوبيس في مصر هو انعكاس للواقع السياسي الاجتماعي المصري، إنه برلمان متنقل بكل فئات الشعب من عمال وفلاحين وطلاب وموظفين ونشالين ونصابين ومتسولين، غير أنه يخلو كثيرا من النخبة التي اكتشفت وطنيتها مؤخرا بالرقص على أنغام "تسلم الأيادي". ولا يخلو ذلك الجو من الاحتداد والتناوش اللفظي في الحديث عن السياسة وأحوال البلد وما آلت اليه من قرف، وقد يتطور الحديث حتى يصل إلى "خناقة" وضرب وبلطجة وكأننا في "برنامج توك شو"، لتجد ذلك الصوت الساخر "ياجماعة استهدوا بالله إحنا في أتوبيس يعني مكان محترم.. إحنا مش في قناة فضائية". وبرغم كل ما يعانيه الأتوبيس من مشاكل وكوارث، وبرغم أن "عم سلطان السواق" لا يعرف من تكنولوجيا الموبايل إلا كلمة "ألو" والكمسري "مش فاضي يبص وراه"، وركاب الأتوبيس معتقلي التعنت والزحمة والإزعاج والديكتاتورية طوال مدة الطريق لا يفكرون إلا في لحظة الخلاص عند الوصول، إلا أن الحكومة المصرية قررت أن تلبي مطالب الملايين من مرتادي الأتوبيس بتفعيل خدمة "الوايرليس" لاستخدام النت من الموبايل داخل الأتوبيس. قريبا.. بدلا من عبارة "على جنب يا أسطى"، ستجد أم محمد تصيح من المقعد الخلفى "الباسوورد كام يا اسطى"!