ما أروعك يا مصر، ما أجمل شوارعك، وما أروع أهلك، روحك، رائحتك، عبق التاريخ يفوح من جوانبك، كأن الدنيا نبتت منك. تعالوا معي أعزائي في رحلة، حيث يشدني الحنين إلى هذا الزمان إلى مصر فى عام 1954 حيث كوكب الشرق يملأ صوتها الآفاق وهى تشدو "هسيبك للزمن.. لا عتاب ولا شجن.. تقاسى من الندم.. وتعرف الألم.. تشكى مش هسأل عليك.. تبكى مش هارحم عينيك". في عام 54 حيث الجمال والروعة يملآن مصر، حيث الشوارع النظيفة وواجهات المحال الأنيقة، وسكان القاهرة بلغ عددهم مليونين ونصف المليون، حيث "التروماى" يسير في ضواحي القاهرة في رشاقة وهدوء دون صخب أو إزعاج. مصر 54 حيث دور السينما تعرض فيلم "حياة أو موت" لفتى الشاشة عماد حمدي، والذي ظل تتردد فيه هذا المقولة التي ظلت في ذاكرة الزمن "من حكمدار بوليس العاصمة إلى السيد أحمد إبراهيم لا تشرب الدواء الذي أرسلت ابنتك في طلبه، الدواء فيه سم قاتل". وسينما أخرى تعرض فيلم "دعاء الكروان" لأحمد مظهر وفاتن حمامة، وأخرى تعرض فيلم "عفريتة إسماعيل يس" لكيتي وإسماعيل يس. الأزهر وما أدراك ما الأزهر، العلم والعلماء، والنور والضياء، حيث شيخ الأزهر محمد الخضر حسين الذى استقال من منصبه احتجاجا على إلغاء القضاء الشرعى ودمجه في القضاء المدني . حيث عبد الناصر ينشئ شركة الحديد والصلب، ويعقد اتفاقية مع بريطانيا لجلاء قواتها. وفى شقة مضيئة بأنوار الكهرباء، ولكنها مظلمة، مظلمة بقلوب سوداء، عاشت في هذا الجمال المصري، أكلت من طعام مصر، وشربت من نيلها، وتنفست من هواء مصر، وعشقت أيضا مصر ولكنها استجابت لأوهام خبيثة، استجابت لعنصرية بغيضة. اجتمعوا في هذه الشقة في يوم غير اليوم الذي تغنى فيه أم كلثوم لأن صوت أم كلثوم يوقف التفكير في الشر.. يوقف التفكير في التخريب. اجتمع عشرة رجال وفتاة يدبرون لتفجيرات في أماكن معينة يحددها لهم جهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد)، وبالفعل في شهر يوليو من هذا العام تم تفجير مكتب بريد الإسكندرية، وبعدها بأيام تم تفجير مكتب الاستعلامات الأمريكي في الإسكندرية. وعندما ذهب فيلب ناتسون، وهو أحد أفراد هذه المجموعة، لتفجير سينما "ريو" بالإسكندرية، احترقت القنبلة فى جيبه قبل تفجيرها وتم القبض عليه لتنكشف المؤامرة وتعرف بعد ذلك بفضيحة لافون. مارسيل نينيو هى الفتاة التى كانت ضمن هذه المجموعة، والتى كان لنا معا هذا اللقاء ولولا الخيال ما كان لنا معها هذا الحوار. اسمي مارسيل نينيو، أنا مصرية وديانتى اليهودية. هل اشتركت مع هذه المجموعة كراهية لمصر؟ إننى أحب مصر أعشقها.. من ذا الذى يعيش فى مصر ولا يحبها؟! إن الحياة في مصر تحمل روائع الدنيا كلها، فمذاق أكلها، وعذوبة مائها، وطيبة أهلها توددهم وتواصلهم، إنهم لا يستطيعون العيش في عزلة، إنهم شركاء حياة، ليس لكل واحد حياته الخاصة، بل إن حياتهم مشاع بينهم، تجد هذا فى أفراحهم وأحزانهم هم أصحاب تلك الأمثلة التى ولدت من رحم حياتهم "الجار للجار"، "الناس لبعضيها"، "جنة من غير ناس ما تنداس"، "إيد لوحدها ماتسقفش"، وكلها أمثلة تدل على رغبتهم المتأصلة في نفوسهم في تماسكهم. ولكنهم خدعونا بوهم عنصرية بغيضة، لقد صنعوا لنا وهما وشغلونا به، نعم إنه وهم مصنوع من عنصرية أقنعونا به، ولكن حب مصر ظل في قلوبنا يوقد بين الحين والآخر. أتعرف الدكتور موسى مرزوق، ذلك الطبيب المصرى اليهودي الذي اشترك معنا في هذه المؤامرة وحكم عليه بالإعدام، لقد كان هذا الطبيب يتمتع بسمعة طيبة بين المصريين جميعا، لقد كان يعمل في المستشفى اليهودي وأنشأ عيادة خيرية في حارة اليهود، أليس في هذا دلالة على حبه لمصر وأهلها؟ نعم اشتركت في هذه المؤامرة وقضيت في السجن أربعة عشر عاما حكم على بالسجن مدى الحياة، ولكنى خرجت عام 1968 في عملية سرية لتبادل الأسرى، خرجت بعدها من السجن وغادرت مصر، ولكنى ظللت طول حياتي نادمة على اشتراكي في هذه المؤامرة. نعم ظللت طول حياتي أحب مصر، ففيها ولدت وفيها قضيت طفولتي وشبابي، لاتزال رائحتها لا تغادر أنفى، مازلت أردد تلك الأغنية التي غنتها أم كلثوم في نفس العام الذي تم القبض علينا فيه، غنتها أم كلثوم ومازلت أخاطب بها نفسى كأن مصر تعاتبنى بها. تشكى مش هسأل عليك.. تبكى مش هارحم عنيك ياللى مارحمتش عينيا.. لما كان قلبى فى إيديك.. الزمن هيدوقك فى البعد نارى.. الزمن هو اللى هيخلصلى تارى.