قال الدكتور عباس شومان وكيل الأزهر إنه ومنذ أكثرَ من ألف عامٍ والأزهرُ الشريف منارةٌ للعلم وقِبلةُ طالبيه من شتى بقاع المعمورة، وهو قلعة المعرفة الوسطية المعتدلة التي لا تعرف الغلو ولا الشطط، ولا تتلون بألوان الطيف السياسي، وفي رحابه حطت وفود الشرق والغرب تنهل من معين منهجه الرائق في فهم علوم الدين، وفي أروقته تعلم الملوك والسلاطين، وفي جامعته تخرج كثير من الرؤساء والوزراء والسفراء والمفكرين، ومن صحنه انطلقت الثورات، ومن على منبره وُجِّهت، وبقيادة علمائه ومشاركة طلابه لطوائف الشعب مسلمين ومسيحيين انكسرت قوى الطغيان، وتحطمت أحلام الغزاة، وتحت قبابه مد العلماء أرجلهم غير طامعين في مال ولا منصب ولا جاه، وبين الترغيب والترهيب أدوا رسالتهم السامية جيلًا بعد جيل. وأضاف شومان خلال كلمته بمؤتمر دور المؤسسات الدينية في عمليات بناء السلام والحوار والمنعقد بلبنان إن الوسطية والاعتدال، والفهم الصحيح لنصوص الكتاب والسنة، والمحافظة على الهوية، وعدم التفريط في الثوابت المتفق عليها، تمثل سماتٍ أساسيةً في المنهج الأزهري الذي امتاز به الأزهريون عبر العصور، ولم يحيدوا عنه على الرغم من التحولات السياسية والفكرية العاصفة التي وقعت في أثناء تاريخ تلك المؤسسة العريقة الممتد لعشرات القرون. وهو منهج واضح وثابت لم - ولن - يرتبط بحاكم أو شيخ معين، فديدن الأزهر الشريف على مدار العصور الجهر بما ينفع الناس في شئون دينهم ودنياهم، مشددًا على أن يبقى عالِمُ الدين بعيدًا عن المعترك السياسي بمعناه الحزبي الضيق، وأن يضطلع فقط بدوره في توعية الناس وتنويرهم، وبيانِ ما تستقيم به حياتُهم، وتقويمِ المعوج منها، وتصحيح ما فُهم على غير وجهه من التشريعات الإلهية السمحة، ولا يعني ذلك فصلًا للدين عن السياسة بالمعنى الذي تسعى إليه وتبتغيه بعض التيارات الفكرية، فالدين منهجُ حياة. وأشار شومان إن الأزهر الشريف لا يقتصر دوره على التعليم والدعوة فحسب، وإنما تضطلع تلك المؤسسة العريقة بأدوار حيوية على المستوى الثقافي والاجتماعي والوطني والإنساني كذلك، وقد اقتضت المعطيات المستجدة في الآونة الأخيرة على المستوى المحلي والإقليمي والدولي أن يشهد الأزهر الشريف في عهد شيخه الجليل الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب - حفظه الله - طفرةً غيرَ مسبوقة في هيكله الإداري، ووثبةً كبرى في برامجه الإصلاحية الموجهة، وذلك من خلال عمليات التطوير المستمرة لهيئاته التقليدية المعروفة، واستحداث أدواتٍ وآلياتِ عملٍ جديدة من شأنها مواكبةُ المستجدات؛ وذلك في إطار الدور الذي يضطلع به الأزهر الشريف كمرجعية إسلامية عالمية منوطٍ بها نشر القيم والتعاليم الإسلامية السمحة، وتصحيح الصورة المغلوطة التي عَلِقَتْ في أذهان غير المسلمين والمسلمين على حد سواء، خاصة في ظل حملات التشويه التي تحاول النيل من الإسلام والمسلمين، وظهور جماعات تنتسب إلى الإسلام لكنه من أقوالها وأفعالها براء، وفي ضوء رسالة الأزهر السامية التي تتمثل في ترسيخ قيم الوسطية والأخلاق الإسلامية، وتعزيز الوحدة الوطنية، وتقوية نسيج المجتمع والمحافظة على استقراره، والتصدي لتيارات العنف الفكري والتشدُّد والغُلُو في فهم النصوص وتأويلها. إن ما يواجهه العالم اليوم من تحديات، وما يوصم به الإسلام من تهم وافتراءات نتيجة ما يرتكبه بعض المنتمين إليه من جرائم لا يقرها دينٌ صحيح، ولا يقبلها عقلٌ سليم، ولا تستسيغها فطرةٌ سوية، فضلًا عما يروج له بعض أصحاب المصالح والأهواء - مسلمين وغير مسلمين - من ادعاءات أثارت كثيرًا من الفتن التي هددت أمن المجتمعات وزعزعت استقرارها، وجعلت الناس يتخبطون في ظلمات كقطع الليل المظلم؛ كل ذلك جعل حديث الناس اليوم لا ينفك حول دور الأزهر الشريف في تجديد الخطاب الديني باعتباره المرجعية الإسلامية المعتبرة محليًّا وعالميًّا . وتابع : الحقيقة التي لا مراء فيها أن الأزهر الشريف يؤمن إيمانًا لا لبس فيه ولا غموض بمسألة التجديد في الفكر الإسلامي مراعاةً للزمان والمكان وأحوال الناس وما يستجد في حياتهم. ولا غَروَ في ذلك؛ فقد استمرت مسيرة التجديد في الفكر الإسلامي ابتداءً من عصر النبوة، مرورًا بزمن الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى العصر الحديث، وستستمر هذه المسيرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ فهذه سنة الله في الكون، وهي قاعدةٌ مسلَّمة في نصوص صريحة، وحقيقةٌ تاريخية ثابتة، وضرورةٌ تقتضيها مستجدات العصر، وهو ما جعل الإسلام الدين الصالح لكل زمان ومكان. وأكد شومان إن التجاهل غير المفهوم وغير المبرر لجهود الأزهر الشريف على المستويات كافة، وخاصة في هذه المرحلة الدقيقة التي تمر بها بلادنا بل والعالم أجمع، لن يجدي نفعًا إلا للمتربصين والمغرضين؛ فلا شك أن هذه الجهود الحثيثة لن تؤتي ثمارها المرجوة إلا إذا وصلت إلى أكبر عدد من الناس من خلال تسليط المؤسسات الإعلامية والصحفية الضوء عليها كما ينبغي، فلعل كلمة طيبة أو تصحيحًا لمفهوم أو توضيحًا لحكم شرعي، يغير مسار شخص مغرر به من كونه قنبلة قابلة للانفجار إلى عنصر صالح في المجتمع. ومن المؤسف، بل من المحزن حقًّا، أن نرى هجومًا ممنهجًا على الأزهر وقياداته، ومن الظلم البين اتهام الأزهر وعلمائه بالتقصير وعدم تحمل مسئولياتهم، فضلًا عن رد أسباب التطرف والإرهاب إلى مناهجه، وكأن سقوط هذه المؤسسة وتحطيم رمزيتها وإضعاف هيبة علمائها لدى مسلمي الداخل والخارج أصبح هدفًا لبعض أصحاب المصالح والأهواء! وفي الختام.. أؤكد أن الجهود الحثيثة المبذولة لتجديد الخطاب الديني لن تؤتي ثمارها المنشودة، إلا إذا صَحِبَها في التوقيت نفسِه وفي خط متوازٍ معها خطابٌ إعلامي وثقافي وفني بنَّاء غير هدام، خطابٌ يعي الفرق بين التجديد والتبديد، خطابٌ يدرك خطورة المرحلة ويعلي المصلحة العامة على المصالح الخاصة أو الانتماءات السياسية أو الفكرية، خطابٌ يقدم الفكر الديني وفق فهم الأزهر الشريف ومنهجه، ويعمل على مساندته وإظهاره للناس.. فمن خلال تضافر جهود المؤسسات المعنية والعمل معًا وفق استراتيجية واضحة يتحد فيها الخطاب الديني، والخطاب الإعلامي، والخطاب الثقافي، والخطاب الفني المتمثل في الأعمال الفنية الهادفة؛ يمكن عندئذٍ أن تحدثَ ثورةٌ دينية وأخلاقيةٌ شامل