43 عامًا مرت على حرب أكتوبر المجيدة، تلك الحرب التي ذاقت فيها مصر معنى الكرامة والحرية والاستقلال، بعد أن ألحقت بالعدو هزيمة ساحقة سطرت في كتب التاريخ، السفير معصوم مرزوق، مساعد وزير الخارجية الأسبق، كان بين أولى الدفعات التي تم توزيعها على جبهة القتال في عام 71، وظل مدافعًا عن مصر حتى بدأت الحرب وتحقق النصر، وهو واحد من القلائل الذين ما زلوا متمسكين بالماضي وببطولاته، دائمًا ما يكتب عن أكتوبر، عن مشاهد العبور، عن لحظات الانتصار، لذلك أجرت «البديل» معه حوارًا عن ذكرى العبور والانتصار، وإليكم نص الحوار.. ما الذي يجول في ذاكرتك عن حرب أكتوبر المجيدة؟ ما زالت ذكرى حرب أكتوبر تحوم في مشاعري وخيالي ووجداني كفعل وحدث، تشعر بأن هذه الحرب حلم، جيل كامل من شباب مصر حوالي مليون مصري على خط القناة، حتى جاءت لحظة العبور، أتذكر يوم 6 أكتوبر صباحًا جاء الرائد جمال غانم قائد كتيبة الصاعقة ومعه ضباط الكتيبة والعساكر ومعهم أكياس بلح للإفطار، وردد بصوت منفعل: «سنعبر القناة اليوم». في تلك اللحظة مرت ذكرياتي كالشريط أمام عيني من طفولتي حتى أصبحت طالبًا بكلية هندسة، وانضممت للقوات المسلحة، تلك اللحظة كانت بالنسبة لي ليست إنقاذًا للوطن فقط، فقد كانت إنقاذًا لي أنا شخصيًّا، فعندما كنت أنظر للخريطة وأرى أن جزءًا من أرض مصر مدنس بهذا الشكل، كنت أشعر بالعار، كنت أشعر أن المصريين لن يقدروا أن يقفوا أمام تاريخ أجدادهم وأحبابهم وهم تحت رحمة «عدو اغتصب جزءًا من أرضه» إلَّا إذا حرروه. أتذكر أيضًا أن أكثرية زملائي من ضباط الصاعقة في العشرينيات من عمرهم يتدربون على رسم خرائط الجبهة على الرمال وطرق العبور المتاحة لنا، لدرجة أنه عندما عبرنا القناة كان هناك إحساس بأننا نمر عبر أرض مألوفة لنا، وذلك من كثرة ما تدربنا عليه على الخرائط وحلمنا به، ومن كثرة ما كنا نرى العلم الإسرائيلي على الضفة الثانية فنمتلئ شوقًا ورغبة وحلمًا بيوم العبور، وعندما عبرنا كنت أشعر بأنني أمشي في حضن أمي. حدثنا عن المواقف التي لا تنساها في هذه الحرب؟ أنا ومجموعتي من ضباط الصاعقة حاصرنا بور توفيق، وأخرجنا منها 37 أسيرًا، وكان لنا موقف نبيل مع الأسرى الإسرائيليين، حيث كان أحدهم مصابًا، وأجرى عملية جراحية في الأحبال الصوتية، وركبوا له جهازًا للتنفس، وعندما سلموا أنفسهم جاءت الصحافة والإعلام الأجنبي من كل مكان ليغطوا هذا الحدث، حتى سألني أحدهم: «أنتم تظنون أنكم تحررون كل سيناء» فرددت عليه بحزم: «نعم.. سنحررها كاملة ولو بدمائنا». كان هذا اليوم هو مقدمة للانتصار، حيث كان أشبه بالخيال، جميع الأسرى يحيون العلم المصري، ويقدمون التحية لقائد الكتيبة.. في الوقت ذاته شد عريف انفعالي صعيدي "جدع" جهاز التنفس للمصاب؛ لأن الجثث المصرية ما زالت قائمة على قناة السويس، والإسرائيليين رافضون تسليمها.. فاشتد غيظ العريف؛ مما أدى إلى ارتكابه هذا الفعل، الأمر الذي أدى إلى انبثاق الدم من المصاب الإسرائيلي، لكن جميع الضباط رفضوا هذا الأمر، واسترجعوا الجهاز لعلاج المصاب، فبغض النظر عن هذا فهو إنسان، وأصبح خارج المعركة، وهناك اتفاقيات جنيف التي تحدد كيفية تعامل الأسرى، لكن في المقابل علمت بعد سنوات من الحرب من المذكرات الإسرائيلية أن الاحتلال الإسرائيلي قتل الأسرى المصريين بدم بارد في حروب 56 و67 و73. ورغم ذلك افتخرت بموقف الضباط المصريين، فديننا ووطنا علمانا ذلك. يوم 17 أكتوبر لن أنساه أبدًا، كلفت من قيادة الجيش الثالث أن أنفذ كقائد بفصيلتي الصغيرة المكونة من 35 فردًا عملية كبيرة خلف خطوط العدو، والعملية كانت مهمتها على جزأين: الأول ينفذ ضابط آخر بمجموعته هجومًا على موقع صواريخ إسرائيلي كان يضرب على الحد الأمامي للقوات المصرية صواريخ ss10 ،ss11، وكان خلف كل قاعدة صواريخ إسرائيلية سرية تحميها وتؤمنها، وكانت مهمتي وفصيلتي وضع كمين تعطيلي لهذه السرية بالألغام، انتظرت إشارة ضابط المجموعة الأخرى لوضع الألغام، وكان لديَّ إحساس بأنها المهمة الأخيرة؛ لأنها تسمى بالمستحيلة. كثير من زملائي أجروا مثلها ولم يعودوا، بالفعل وصلنا إلى مكان الكمين، وانتظرنا إشارة الزملاء، بدأنا في رسم المهمة على الرمال، وهي وضع ألغام على طريق السرية الإسرائيلية التي تؤمن قاعدة الصواريخ المذكورة، وانتظرت أكثر من الوقت المحدد للإشارة، وإذا بنا نرى بأعيننا قاعدة الصواريخ الإسرائيلية كشعلة من النيران تيقنا وقتها أن المجموعة الأخرى أجرت العملية بنجاح، وعلينا تنفيذ المهمة دون انتظار الإشارة، فوضعنا الألغام، ونجحنا في اصطياد الهدف، لكن استشهد المهندسون العسكريون الذين وضعوا الألغام؛ بسبب عدم الرجوع لمكانهم المتفق عليه. وماذا عن الأشخاص الذين لم تنسَهم في هذه الحرب؟ جميعم، لكن مصطفى الحادي كان من بين العجائب والغرائب التي رأيتها في هذه الحرب، وهو فلاح بسيط لا يقرأ ولا يكتب، حاولت أن أدربه كثيرًا على استخدام ال "آر بي جيه"، لكن دائمًا ما كان يخطئ الهدف، حيرني الحادي في التدريب، فشلت معه أكثر من مرة؛ كي يطبق مركز تلسكوب ال "آر بي جيه" على هيكل الخشب والخيش الذي يمثل دبابة، كانت نتائجه في ميادين التدريب على الرماية مخيبة للآمال، كنت أعتبره بين جنودي مجرد «عجلة نايمة». حتى تحققت المفاجأة، ففي إحدى العمليات نجح الجندي فى إصابة الهدف، لقد فعلها مصطفى، وخيب ظني فيه، وطوال أيام الحرب لم يخفق مرة واحدة في وضع مركز التلسكوب على دبابات العدو، بل إنه في اليوم الأخير وقبل استشهاده مباشرة افتدانا جميعًا حين زحف. بال "آر بي جيه"؛ كي يدمر الدبابة التي كانت تسد علينا طريق الخلاص، دمرها، لكنه تلاشى في الانفجار.. لم نجد ذرة من جسده، ففي يوم 23 أكتوبر 73 استشهد مصطفى الحادي. في أي فترة شعرت أنها المعركة الختامية؟ كان الدخان كثيفًا، فلم أتبين أن رفيق السلاح قد انكفأ في الحفرة المجاورة، والموقف غامض غير مفهوم، ولا أحد يرد على نداءاتي المتكررة في جهاز اللاسلكي: «من بدر1 إلى بدر.. هل تسمعني؟؟».. أدركت وقتها أن تلك هي معركتي الختامية، وأنني سألحق بمن سبقوني من الرفاق، فقد كانت دبابات العدو تطبق من كل اتجاه في طريقها لموقع القيادة المتقدم للجيش الثالث المصري.. شعور واحد تسلط على كل المشاعر الأخرى أننا جميعًا في هذه اللحظة مسؤولون عن مصير الوطن. كان ذلك ظهر يوم الثالث والعشرين من أكتوبر عام 1973، وبعد مرور ساعات على إعلان وقف إطلاق النار بعد قرار مجلس الأمن رقم 338 مساء اليوم السابق.. وما زلت أتذكر رقيب الفصيلة «رضوان» وقد جاءني بعد أن أذيع القرار في المذياع وتلقينا الإشارة اللاسلكية، جاءني رضوان ليستأذن أن نسمح للجنود بخلع أحذيتهم والاسترخاء، فطلبت منه في خشونة أن يعود إلى موقعه في الكمين، مشددًا على ضرورة اليقظة. ما زلت أذكر نظرة الدهشة في عينيه وكأنه يتساءل عما أصاب الضابط الشاب، فلقد أعلنوا انتهاء الحرب، لقد أصبحنا خارج المعركة، وقد كانت تلك آخر مرة أتحدث فيها مع الرقيب رضوان، حيث توارى في الظلام عائدًا إلى موقعه. كنا نبتلع أقراص «الريتالين»؛ كي نقاوم غلبة النوم طوال أيام الحرب، ومع ذلك غفلت عيناي لدقائق صباح يوم 23 أكتوبر حتى استيقظت على صوت انفجارات مدوية، وشاهدت طائرات العدو تحوم فوق رؤوسنا على مستويات منخفضة وهى تلقي بقنابلها حولنا، وعلى مرمى البصر كانت هناك تشكيلات لدبابات العدو تثير الرمال وهى تتقدم حثيثًا في اتجاهنا، فأصدرت أوامري لفريق المهندسين العسكريين بالبدء في تنفيذ الخطة المتفق عليها لتلغيم مدخل المدق 12، والتأهب لصد الدبابات، رغم أنني كنت أدرك أن ذلك ليس أسلوب قتال الصاعقة، فقد تدربنا على الكمائن الليلية والإغارات، وأساليب القتال التي تعتمد على الكر والفر، ولم يكن عددنا أو تسليحنا يتيح لنا القتال بأسلوب قوات المشاة في الدفاع الثابت داخل الخنادق. هل كانت هناك أوامر من قيادة الجيش في تلك الفترة؟ آخر تكليف كان صباح يوم 22 أكتوبر بنصب كمين عند مدخل الطريق المؤدي للموقع المتقدم لقيادة الجيش الثالث، وكنت أظن أنه مجرد راحة لوحدتي الصغيرة بعد أيام متتالية من القتال المتواصل، لكنني لم أكن أعرف أن ما ينتظرني هو أقسى معركة كتب علينا خوضها بعد انتهاء الحرب بشكل قانوني وفقًا لقرار مجلس الأمن. حيث بدأ تشكيل دبابات العدو يتضح ويزداد اقترابًا وهو يقصف بجنون في كل اتجاه، ومن خلفه كانت ثلاث طائرات هليوكوبتر تطلق من بطونها صواريخ تسير بخطوط بيضاء ثم تنفجر خلفنا مباشرة، ناديت على قواذف ال "آر بي جيه" للتأهب، وطلبت من الجميع إعداد القنابل اليدوية المضادة للدبابات، ثم وجدت نفسي أهتف فى جنودي: "مش هيعدوا إلا فوق جثثنا.. الله أكبر.. الله أكبر"، وارتفعت أصوات الرجال من مواقعها في الكمين وهى تردد الهتاف. أصدرت أوامري لأفراد المهندسين العسكريين لتنفيذ خطة تلغيم تقاطع المدق 12، فاندفع جنديان يدعيان سلطان ومحمد السيد وهما يحملان الألغام المضادة للدبابات، وزحفا إلى المكان الذي حددته عند تسلمنا الموقع، ودفنا الألغام.. أعدت التأكيد أنني سأطلق الطلقة الأولى، مشددًا على عدم الاشتباك إلَّا بعد ذلك، وعندما تدخل الدبابات في مرمى ال "آر بي جيه"، وبالشكل الذي يدفع الدبابات للدخول في منطقة الألغام. فوجئنا بدبابة إسرائيلية نجحت في المناورة بالالتفاف البعيد والتسلل، وأصبحت تحتل تبة خلف الكمين مباشرة، رأيت قائد الدبابة الأشقر بوضوح ينظر حوله من برج الدبابة، ولو أنه خفض نظره لأمكنه أن يرانا، ويسحقنا بجنزير الدبابة.. ناديت بسرعة على قاذف ال "آر بي جيه" القريب العريف محمد عبد الفتاح، فزحف إلى حفرتي، ثم تأهب حابسًا أنفاسه لقذف تلك الدبابة.. كانت لحظات عصيبة، فلو أخطأ محمد فإننا جميعًا سنلقى حتفنا، لذلك أعددت قنبلتي اليدوية المضادة للدبابات، بينما التفت محمد نحوي كي يأخذ أمر الإطلاق، ثم أطلق قذيفته، وعندما انفجرت الدبابة الإسرائيلية، وتطايرت شظاياها في كل اتجاه، هتف الجميع في سعادة: "الله أكبر"، بينما ظل العريف محمد في موقعه وهو يسألني عما إذا كان قد أصابها بالفعل، فجذبته بسرعة كي نغير الموقع قبل أن تصلنا حمم الدبابات الأخرى. وسرعان ما اصطدمت دبابة أخرى بحقل الألغام فتوقفت وقد تحطم جنزيرها، لكنها واصلت إطلاق النار في اتجاهنا، إلَّا أن جنديًّا آخر تمكن من اصطيادها بقذيفة ال "آر بي جيه". ويبدو أن العدو جن جنونه، فلم يكن يتوقع مقاومة في هذا الموقع. وقد علمت بعد الحرب أن قواته كانت قد تجاوزت هذا الموقع ببعض كيلومترات، ووصلت إلى طريق مصر السويس بالفعل، وانطلقت مئات القذائف من المدفعية والطيران التي تساقطت حولنا وفيما بيننا، وبعد أن تمكنا من إصابة دبابة ثالثة، تراجعت عربة النقل المدرعة إلى الخلف تحت وابل من رصاصنا، ثم نفدت ذخيرتنا. ما الكلمات التي هزتك في المعركة وزادت من حماسك؟ عندما وقفت على طريق مصر السويس الصحرواي ومعي من تبقى من رجالي، كانت شمس الثالث والعشرين من أكتوبر تغرب، والانفجارات تتوالى وسحابات كثيفة من الدخان تحلق في السماء، التقيت بضابط كبير في أحد الأسلحة المعاونة، وكان معه بعض أفراد من وحدته، قال لي فى حزن وهو يتأمل الاتجاه الذي اخترقه العدو: "إن نكسة 67 تتكرر".. وما زلت أتذكر كيف هزتني تلك الجملة، وكيف رددت عليه بالرفض، مؤكدًا أننا لو تمسكنا بكل شبر، فلن نسمح للنكسة بالتكرار.. ووافقني ثم وافق على اقتراحي بجمع كل الجنود الذين فقدوا قياداتهم ومعهم جنودنا، وانهمكت طوال ليلة 24 أكتوبر في تنظيم خط دفاعي بالقرب من جبل عتاقة؛ للوقوف في وجه العدو. وفيما يخص نتائج حرب أكتوبر.. هل كان بالإمكان أفضل مما كان؟ ما حدث بعد الحرب من مواقف سياسية للرئيس السادات أولها يتعلق بوقف الحرب أعتبره أنا شخصيًّا بداية انزلاق المد العربي القومي، وهو ما أدى إلى تدليج المنطقة العربية بأكملها، السادات كانت سياسته خاطئة، فلا يوجد سياسي في العالم يسلم 99% من أوراق اللعبة في أيادي خصمه وهي الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي كانت دعمًا حصينًا في الحرب لإسرائيل. هنري كسينجر وزير الخارجية الأمريكي حينذاك كان يعلم مثلما كنا نعلم أننا أذا أكملنا الحرب، كنا سننتصر وسنحرر أراضينا كاملة، بل كامل الأراضي الفلسطينية، حيث كانت هناك ثغرة في قوات العدو، ووضعنا بالفعل خطة لاستكمال الحرب والقضاء على جيش الاحتلال المتواجد وتدمير هذه الثغرة، فإسرائيل لم تعتد على الحرب من خنادق ثابتة أو وهي محاصرة، طول حروبها تضرب وتلف. ورغم أننا كنا سنخسر الكثير من جنودنا إذا استكملنا الحرب؛ لأننا كنا سنضع قوات من الصاعقة والمظلات داخل هذه الثغرة للاشتباك بالسلاح الأبيض، بالتزامن مع ضرب المدفعية في الاتجاهات الأربعة، فضلًا عن ضرب الطيران الجوي ليحولها كاملة إلى كتلة من الفحم، إلَّا أننا كنا سنقضي على جزء كبير من قوات العدو، حيث إن جزءًا كبيرًا منه كان داخل هذه الثغرة، وكانت إسرائيل ستخسر قطاعًا كبيرًا من جيشها ليس لعام أو عامين بل حتى الآن، فمشكلة الكيان الصهيوني في عدد سكانه، ونحن كنا بمقدورنا في ذلك الوقت القضاء على عشرات الآلاف من الجيش الصهيوني.