من بين رجال محمد علي يقف عثمان نور الدين باشا في أول الصف؛ لما قدمه من إسهام حقيقي في التأسيس للدولة الحديثة ومع وقوفه في هذا المركز المتقدم إلا إنه لا يُرى بوضوح ولا يتردد اسمه كغيره ممن كان لهم إنجاز ربما أقل بكثير مما أنجزه الرجل.. هذه الحالة من التعتيم والنسيان التي صاحبت اسم هذا الرجل الفذ ربما كانت بأوامر مباشرة من الباشا نظرا لأن ماقام به عثمان باشا لم يسبقحدوثه من رجال محمد علي ولم يحدث بعد ذلك –أيضا- إذ تحدى الرجل الباشا تحديا صارخا ثم قرر الانصراف عنه بتجاهل تام كأن لم يعرفه من قبل وهو الذي كان منه بمثابة الابن. ولد عثمان سقه باشي زاده وهو اسمه الأول في جزيرة (مدللي) جنوبي تركيا في النصف الأول من العقد الأخير من القرن الثامن عشر على وجه التقريب إذ لم نجد في أي من المصادر التي اطلعنا عليها مايشير إلى تاريخ ميلاده والمرجح أنه قدم إلى مصر مع أسرته أثناء الحملة الفرنسية، وعندما وصل محمد علي إلى السلطة كان والد عثمان أحد موظفي قصره وهناك اختلاف حول عمل الوالد إذ يذكر البعض أنه كان مجرد سقاء بالقصر بينما يشير آخرون إلى أنه كان موظفا كبيرا يعنى بشئون الري،ويصحب الباشا إلى مقياس النيل ويباشر أعمالا خاصة بحساب المناسيب. كان محمد علي باشا ممن يحسنون اختيار الرجال ذوي المواهب والقدرات الخاصة، وقد وقع الاختيار على عثمان من قبله أو من قبل يوسف بكتي قنصل السويد العام بالقاهرة كما ذُكر في خطاب بين موظفين بالقنصلية الروسية بالقاهرة آنذاك، وهو الخطاب الذي يحسم تاريخ سفر عثمان نور الدين لأول بعثة تعليمية إلى إيطاليا، وكان ذلك أواخر عام 1809، وبحسب هذه الوثيقة (الخطاب) يتبين لنا أنه وصل إيطاليا وأقام بين (بيزا)و(ليفورنو) لنحو خمس سنوات يتلقى العلوم الحربية والبحرية وفنون السياسة وإدارة الحكم، بعد ذلك انتقل عثمان إلى فرنسا وبقي بها عامين التقى خلالهما (المسيو جومار) أحد علماء الحملة الفرنسية في مصر، وكان-آنذاك- مكلفا من قبل الحكومة الفرنسية بنشر أعمال المعهد العلمي المصري، ولذكائه وتفوقه وإجادته لعدد من اللغات على رأسها الفرنسية وقع الفتى من نفس العلاّمة (جومار) موقعا حسنا كما ذكر كلوت بيك في مذكراته وتوطدت بينهما العلاقة مما جعله يطلب من عثمان بشكل مباشر السعي لدى الباشا لإرسال بعثات تعليمية إلى فرنسا، وما زال عثمان يلح على الباشا حتى أُرسلت أولى البعثات التعليمية المصرية إلى فرنسا عام 1826، وعرفت هذه البعثة باسم بعثة (مسيو جومار). اختلفت المصادر في تحديد تاريخ عودة عثمان نور الدين إلى مصر والمرجح أن العودة تمت بين عامي 1817، 1820، وفور عودته عينه الباشا كاشفا (مفتشا) بالحرس الحربي، وكان عثمان قد كلف أثناء البعثة باقتناء الكتب وخصصت له ميزانية لذلك، ولما أراد الباشا تحقيق الاستفادة القصوى من هذه الكتب – خصص قصر ابنه ابراهيم ببولاق ليكون نواة لأول مكتبة متخصصة في عهده، وقد تحولت هذه المكتبة إلى أول مدرسة نظامية في مصر بعد تنفيذ الاقتراح الذي قدمه عثمان للباشا ليصبح أول ناظر لها والمشرف العام عليها كما تولى تدريس مادتي الهندسة واللغة الفرنسية بها. يذكر الدكتور جمال الدين الشيال في كتابه الرائع تاريخ الترجمة والحركة الثقافية في عهد محمد علي أن الرحالة الإيطالي بروكي قد زار هذه المدرسة في 5 ديسمبر 1822 كما زار المكتبة التي ضمت كتبا في فنون الحرب والزراعة والرياضة وكتبا في القانون والتشريع والأدب من بينها الكوميديا الإلهية لدانتي ويعبر بروكي عن دهشة كبيرة إذ لم يجد في هذه المكتبة العامرة كتبا خاصة بمصر وتاريخها سوى كتاب رحلة فولني والكتاب الكبير الذي وضعه المعهد الفرنسي (وصف مصر) وقد تحولت هذه المدرسة إلى مركز للترجمة تحت إشراف نور الدين والمدرسين العاملين بها كما قام دون رافاييل بوضع قاموس إيطالي عربي، وكان يتولى تدريس اللغتين بالمدرسة. ومما قام به عثمان باشا من الأعمال الجليلة ترجمته الكتب الحربية المختلفة في نظم الجيش وقوانينه وتعاليمه من الفرنسية إلى التركية مما أهله ليكون أحد أعضاء اللجنة الثلاثية التي كلفت بوضع برنامج التدريب العسكري الجديد مع سليمان باشا الفرنساوي وأحمد أفندي المهندس. يشير خالد فهمي في كتابه (كل رجال الباشا) إلى أن ما توصلت إليه هذه اللجنة قد تم رفضه من قبل محمد علي وابنه ابراهيم، والسبب في ذلك مطابقته لما كان عليه الحال في الجيش الفرنسي بينما كان محمد علي يميل إلى الاقتداء بما تم من تحديثات في الجيش العثماني وعرفت بعدها بالنظام الجديد. في العام 1823 عين عثمان نور الدين (سر عسكر) الجيش المصري، وحصل على لقب بك بعد اشتراكه مع سليمان باشا في تنظيم الفرقة الأولى للمشاة بأسوان على نسق (النظام الجديد) وبعد ذلك بعامين تولى الإشراف على ترجمة قوانين ونظم البحرية وتعليم ضباطها بالاشتراك مع الجنرال (ليتلييه) ليصبح بذلك مسئولا عن الجيش والأسطول. بعد تحطم الأسطول المصري في موقعة نفارين تولى معاونة المسيو سيريزي في إنشاء دار الصناعة والأسطول الجديد بالإسكندرية، ولما كانت النتائج على أفضل ما يكون أمر محمد علي ببناء منزل لعثمان غربي قصر رأس التين ليكون بجوار الأسطول كما أمر بتزويجه من إحدى جواري القصر، وفي العام 1827، منحه لقب باشا وولاه قيادة الأسطول المصري خلفا لزوج ابنته محرم بك، وفي نوفمبر عام 1831، تحرك الأسطول بقيادته حاملا جزءا من الجيش وكميات كبيرة من المؤن والذخائر الحربية للاشتراك في حرب الشام الأولى وحصار عكا وكان لعثمان دور كبير في سقوط المدينة في يد الجيش المصري، كما كان له إسهام عظيم في إحراز النصر النهائي في هذه الحرب بعد نجاحه في حصار الأسطول العثماني في ميناء مرمريس ما أدىلاستسلام أميرال الأسطول العثماني أحمد باشا فوزي لكن ابراهيم باشا أمر عثمان نور الدين في مارس 1833 بالعودة إلى القاهرة بشكل مفاجئ. وكانت بغض الأقاويل قد ثارت حول مسؤولية عثمان باشا المباشرة عن هروب عدد من القطع الحربية التركية من حصار مرمريس، لكن ذلك لم يثبت من أي وجه؛ ويصبح الأمر مثيرا للشك حين نحاول فهم أمر إبراهيم باشا المفاجئ له بالعودة! على الرغم من ذلك لم تتوقف جهود الرجل في ميدان التعليم إذ قام بتأسيس مدرسة قصر العيني 1825، وكان أول مدير لها كما أنشئت مدرسة أركان الحرب في قرية جهاد أباد بناء على مقترح مقدم منه، وعندما استقدم محمد علي كلوت بك لتكليفه بإنشاء مدرسة الطب المصرية؛ كان عثمان باشا هو المشرف عليه، وإليه رفع كلوت بك أول تقاريره بشأن ما واجهه من مصاعب. ونأتي إلى الموقف الذي فرّق بين عثمان باشا ومحمد علي وتسبب في أن ينمحي ذكر أعمال الرجل الخالدة من معظم كتب التاريخ؛ بل وأن يمحى اسمه أيضا من كثير من الكتب التي ترجمها بنفسه بحسب ما ذهب الدكتور الشيال في شأن كثير من الكتب المترجمة التي لم يستدل على مترجميها، ويذكر المؤرخ الشهير عبد الرحمن الرافعي في كتابه عصر محمد علي أن الباشا وصل إلى جزيرة كريت عام 1833 لتنظيم الحكم المصري بها، وكان عثمان نور الدين باشا أميرال الأسطول في معيته.. أقر محمد علي بالجزيرة عدة إصلاحات إدارية واجتماعية كما قرر فرض التجنيد الإجباري على أبنائها، واتخاذ ميناء السودة كقاعدة للأسطول المصري بالبحر المتوسط، ثم عاد إلى مصر وما إن ذاع خبر فرض التجنيد الإجباري؛ حتى عمت الثورة الجزيرة وحمل السلاح نحو ستة آلاف منالفلاحين قاصدين مقر الحامية المصرية التي تحصنت في معاقلها، وأرسل حاكم الجزيرة مصطفى باشا الأرناؤطي إلى محمد علي يستغيثه، فأرسل إليه قوة بقيادة عثمان باشا الذي ما إن وصل حتى حاول إخضاع الثوار بلين القول،وأثناء ذلك حدثت اشتباكات بين الثوار ورجال الحامية وقع على إثرها ثلاثون من الثوار في أسر الجيش المصري، ورأى عثمان باشا أن الفرصة قد سنحت لتهدئة الأوضاع بإطلاق هؤلاء وإصدار مرسوم بالعفو عنهم، وأرسل إلى محمد علي يعرض عليه الأمر لكن الباشا رفض اقتراح عثمان جملة وتفصيلا وأمر بقتل الأسرى، والتنكيل بأهل الجزيرة يقول الرافعي " فَكَبُر على عثمان باشا أن لا يؤبه لرأيه ويرفض العمل به، ولم يجد وسيلة يخرج بها من هذا الموقف سوى الاستقالة من خدمة الحكومة فارتحل من الجزيرة، وكتب إلى بوغوص بك ناظر الخارجية ينبئه أنه اعتزل خدمة الباشا وذهب إلى جزيرة مدللي ومنها إلى الأستانه حيث مات بها بعد قليل ". هذا هو عثمان نور الدين باشا رجل لم تعرف الدولة المصرية في عهد محمد علي له نظيرا، طوته صحائف النسيان وغاب اسمه الذي استحق الصدارة عن معظم كتب التاريخ لكنه سيبقى خالدا بما قدمه من جليل الأعمال في مختلف المجالات. المصادر 1- كلوت بك- لمحة عامة إلى مصر-ج 2 ص510. 2- خالد فهمي- كل رجال الباشا- ص 118. 3- يونان لبيب رزق- تحديث مصر في عهد محمد علي ص 36 4- جمال الدين الشيال- تاريخ الترجمة والحركة الثقافية في عصر محمد علي ص 101:95. 5- عبد الرحمن الرافعي- عصر محمد علي ص388:386. 6- جاك تاجر- حركة الترجمة بمصر خلال القرن التاسع عشر ص 25.