استدارة تركية جديدة نحو الأزمة السورية أظهرتها تصريحات الحكومة التركية ورئيس وزرائها خلال الفترة الأخيرة، بالتزامن مع مقال نشرته صحيفة السفير اللبنانية يتحدث لأول مرة عن لقاء محتمل، يتم برعاية روسية، بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والرئيس السوري بشار الأسد، الأمر الذي يثير التساؤل: هل يمكن أن يستعيد الرئيس السوري ثقته في نظيره التركي؟ وهل يستطيع الرئيس الروسي فلادمير بوتين لمّ شمل العدوين اللدودين اليوم اعتمادًا على العلاقة الحميمية بينهما في السابق؟ رئيس الوزراء التركي بن على يلديريم تحدث صراحة، لأول مرة أمس، عن أن تركيا تريد، بمساعدة روسية، تطبيع العلاقات مع سوريا بعد المصالحة مع روسيا وإسرائيل، ما يؤكد تحولًا في السياسة التركية بعد سنوات من دعم معارضي الرئيس السوري بشار الأسد، ولكن هل ينجح الروس؟ الدور الروسي الإعلان عن تطلعات روسية لإجراء قمة سورية تركية في موسكو برعاية الرئيس بوتين سبقه تقارير مسربة عن مفاوضات تركية سورية غير مباشرة لإعادة العلاقة بين أنقرةودمشق، فزيارة الدبلوماسي التركي السابق والنائب الحالي لرئيس حزب الوطن التركي، إسماعيل حقي تكين، لدمشق وكشفه عن وجود مفاوضات "غير مباشرة" بين بلاده وحكومة الرئيس السوري بشار الأسد، كشفت أن هناك تمهيدًا لدخول الروس في عملية مصالحة بين البلدين. من التسريبات المهمة التي خرجت من مقال محمد بلوط، في السفير، قوله إن رعاية موسكو تتضمن تسوية ثلاثية تقوم على حكومة وحدة وطنية مثلثة تضم مستقلين وممثلين عن المعارضة السورية المعتدلة، ووزراء موالين للرئيس بشار الأسد، وخلال النقاشات، رفض الموفدون السوريون اقتراحات تركية بمحاصصة طائفية، وتم التوافق على احتفاظ الرئيس الأسد بصلاحيات الوزارات السيادية وإشرافه على وزارات العدل، والداخلية، والمالية، والدفاع، والخارجية، فيما يتم تقاسم الوزارات التنفيذية مع المعارضة والمستقلين. كما ألمح إلى أنه سيتم تعيين 3 نواب للرئيس دون نقل صلاحيات سيادية، على أن يكون اثنان منهما من ممثلي المستقلين والمعارضة، وفي نهاية مرحلة تمتد 18 شهرًا تبدأ من لحظة التوافق على تنفيذ التسوية، من المفترض أن تعمد حكومة الوحدة الوطنية إلى إجراء تعديلات دستورية أساسية لا تمس صلاحيات الرئيس، تليها انتخابات تشريعية ورئاسية، كما سيحق للرئيس الأسد خوض الانتخابات الرئاسية، ولكن لولاية واحدة، يتنحى بعدها، وحصل السوريون على ضمانات روسية بعدم فتح أي ملف في المحكمة الجنائية الدولية؛ لملاحقة أي من المسؤولين السوريين العسكريين أو الأمنيين أو الحكوميين. إلى جانب ذلك يتم، وفقًا للتسريبات، دمج جزء من المجموعات المسلحة في الجيش السوري، وأعد الروس لائحة بتلك المجموعات تشمل مَن وقَّع منها على الهدنة، وتعاون مع مركز حميميم الروسي للمصالحات، كما تعهد السوريون في الخطة أمام الروس، بإصدار عفو شامل عن الضباط المنشقين، لا سيما الذين لا يزالون يقيمون في المخيمات التركية، ولم يقوموا بنشاطات معادية للجيش السوري، كما أن الجيش السوري لن يتعرض لأي عملية هيكلة، فيما لم يجرِ النقاش حول ما إذا كانت الأجهزة الأمنية السورية ستخضع أم لا لإعادة هيكلة، وهو أمر سيحسم في لقاء موسكو، كما أنه من المنتظر أن ينعقد في دمشق، وليس في جنيف، مؤتمر وطني سوري يضم معارضين من الداخل والخارج بضمانات أمنية روسية. يقول محمد حامد، الباحث في الشؤون التركية والدولية، إن روسيا تعمل سياسيًّا ودبلوماسيًّا وعسكريًّا في الفترة الأخيرة من أجل حل الأزمة السورية، وذلك بالاعتماد على زيادة التعاون مع كافة القوى الفاعلة في الملف السوري، مشيرًا إلى أن موسكو استطاعت إقناع سوريا والعراق وتركيا بالتنسيق الأمني الثلاثي من أجل مكافحة الإرهاب والقضاء على المجموعات المسلحة. وأضاف أن روسيا سترتب لقاء عاجلًا بين أردوغان والأسد، وفقًا لتسريبات إعلامية (مقال السفير)، خاصة أن رئيس الاستخبارات السورية علي مملوك يزور موسكو الثلاثاء المقبل، ضمن زيارات الوفود الأمنية السورية إلى روسيا. يضيف الباحث محمد حامد أن روسيا ترغب أن تكون الراعي الرئيسي لحل الأزمة؛ نظرًا لكونها بالفعل تملك الحل السياسي في سوريا، في وقت ينتظر فيه البيت الأبيض الأمريكي رئيسه الجديد في نوفمبر المقبل، مؤكدًا أن موسكو تسعى أن يكون الحل من خلال المحور التركي الروسي الإيراني، كما أنها تسعى في نفس الوقت إلى تهدئة التوتر الإيراني السعودي في المستقبل؛ لتكسب ود الجميع؛ لتضمن دعم الحل السوري. مسارات ومنعطفات أردوغان والأسد، أعداء الحاضر، والذين وصلت العلاقة بينهما إلى حد تبادل الاتهام بالخيانة ودعم الإرهاب، كانت تربطهما علاقات وطيدة قبل اندلاع الأزمة السورية، يمكن أن توصف بأنها علاقات صداقة وأخوة ومحبة، للدرجة التي سمحت بنشر صور عائلية حميمية تجمع عائلتي الرئيسين. وقد مرت العلاقات التركية السورية بمنعطفات عديدة، وبلغ النزاع أوجه عام 1998 حين هدد القادة الأتراك باجتياح الأراضي السورية؛ بحجة وقف هجمات حزب العمال الكردستاني وإيواء قائد الحزب عبد الله أوجلان في الأراضي السورية، ولكن تدخل الدول الصديقة للطرفين وخروج عبد الله أوجلان من سوريا، وتهديد ليبيا بطرد الشركات التركية من أراضيها، أوقف التأزم بين الطرفين. بدأ مشهد العلاقات السورية التركية في التغير بعد انتهاء أزمة 1998، فبرز توجه نحو الحوار والتفاهم، يحذوه السعي نحو إقامة علاقات أفضل وأكثر استقرارًا، فبدأ بالتوافق الأمني، ثم انتقل إلى الجانب الاقتصادي والسياسي، وجرى توقيع عدة اتفاقيات في جميع مجالات الاختلاف، نفّذ معظمها في أوانه. وأعطت زيارة الرئيس التركي السابق أحمد نجدت سيزر، لدمشق في يونيو 2000، دفعة قوية في اتجاه تغيير علاقة أنقرةبدمشق، وعززتها زيارة الرئيس بشار الأسد الأولى لتركيا عام 2004، لكن فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات التركية بزعامة أردوغان، والمواقف السياسية التي اتخذها قادته في السياسة الخارجية في ذلك الوقت، كان لهما الدور الأكبر في تحول العلاقات السورية التركية نحو التفاهم والتعاون، حيث جرى التفاهم على تحويل الحدود من نقطة خلاف وتوتر إلى نقطة تفاهم وتعاون، فوقعت اتفاقية إزالة الألغام من على جانبي الحدود لإقامة مشاريع إنمائية مشتركة. وأعلن هذا التوجه بداية التقارب الذي سيقلب حالة العداء التاريخي إلى حالة من اللقاء والتفاهم والتعاون، خصوصًا وأن قادة حزب العدالة والتنمية رفضوا المشاركة في سياسة العزل والحصار التي حاول الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش فرضها على سوريا، بل قام الساسة الأتراك بلعب دور الوسيط بين سوريا ومختلف الحكومات الأوروبية، الأمر الذي أسهم في مساعدة النظام السوري على عبور تلك المرحلة الصعبة. وعلى الجانب السوري تجاوزت القيادة السياسية السورية كل مثبطات العلاقة مع تركيا، وشيدت ثقة وتعاونًا معها، حتى أصبحت تركيا راعية للمفاوضات السورية الإسرائيلية غير المباشرة المتعلقة بالجولان المحتلة. وعندما هبّت رياح الربيع العربي على سوريا، بدأت الخلافات التركية السورية تعود مرة أخرى إلى الواجهة، وقال الرئيس السوري بشار الأسد حينها: «قبل الأزمة بسنوات قليلة كان أردوغان حريصًا دائمًا على الإخوان المسلمين السوريين، كان يهتم بهم أكثر مما يهتم بالعلاقة السورية التركية. الإخوان كانوا بالنسبة له هاجسًا أساسيًّا.. بعد الأحداث الجسور نُسفت بيننا وبين أردوغان؛ لأنه فقد مصداقيته". حديث الأسد أوضح بما لا يدع مجالًا للشك كيف صارت العلاقات التركية السورية مع بداية الأزمة، وكيف أخذ طعنة من صديق وحليف له في أشد الأزمات، وأصبحت المطالبة برحيل الأسد أمرًا ثابتًا في كل خطابات أردوغان وحكومته، ووصفه ب«الطاغية»، وتعهد بأنه سيدخل دمشق ليصلي في الجامع الأموي، أما الرئيس الأسد، فبعد طول تحفظ فاجأ في خطابه الأخير أمام مجلس الشعب في السابع من يونيو الماضي، وصف أردوغان ب«الأزعر» والإرهابي. "لا تحالفات دائمة ولا صداقات دائمة، إنما المصالح هي الدائمة"، هذه مقولة يتم تدوالها بين أغلب الباحثين في السياسة، الاستدارة التركية الأخيرة لا تبرئ أنقرة من إطالة أمد الحرب في سوريا، وتحولات الرئيس التركي أردوغان غير مطمئنة إلى حد بعيد، وتجبر الحلفاء بعدم الثقة والتوجس من أي خطوات مستقبلية قد تكون على حساب الحليف السابق.