تعد مصر المصب الأول والأخير لكثير من العلوم؛ فهي المصب الأول الذي نستقي منه ما نريد من علوم على يد العلماء، والمصب الأخير الذي لا بد لكل عالم فقيها كان أو صوفيا أن يركن إليه إن لم يكن في بداية حياته ففي آخرها، ونحن بصدد فقيه وصوفي آخر مغربي الأصل، لكن مصر استطاعت أن تأسره. اسمه ونسبه هو الإمام عبد الرحيم بن أحمد بن حجون، وينتهي نسبه إلى الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، لم يكن عبد الرحيم اسمه، لكنه أطلقه على نفسه حبا وطمعا منه لما عاينة من وصف الرحمة، وجنوحه على أن يظفر بنصيب من اسمه، ولد في منطقة ترغاي من مقاطعة سبتة في المغرب الأقصى، وكان مولده في شهر شعبان عام 521 ه/1127 م. حياته في المغرب ورحيله للحجاز تعلم القنائي في جامع ترغاي الكبير، على يد والده، فتتلمذ على يديه ويدي علماء عصره، كأفضل ما يكون، حتى قبل وصوله لسن الثامنة كان حفظ القرآن وأجاده تلاوة وفهما، وعندما وصل به العمر إلى الثانية عشر، توفى عنه والده، فأصابه مرض شديد أشار فيه الأطباء إلى رحيله من مكانه حيث صدمته بموت والده فنزل دمشق وأتم فيها العشرين عاما، نهل هناك من علم علمائها الذين أشادوا بفطنته وحفظه وسرعة بديهته، ولاحظوا فيه ميله للتصوف، فطلبوا منه إلقاء الدروس هناك، فرفض ذلك، وعندما طلبوا من أخيه إقناعه عاد إلى بلدته ترغاي. عاد ليجد مكان أبيه خاليا من العلماء ومن إلقاء الدروس، فطلب منه أهل بلدته أن يقيم مكان والده، وبعد إلحاح منهم وافق العالم الشاب، وفي أول درس حضر له جمع عظيم، ثم توافد عليه طلاب العلم من البلاد المجاورة. قضى الشيخ عبد الرحيم القنائي فترة في مكان والده ثم عزم على اليسر لبلاد الحجاز بغية الحج ومقابلة علماء العالم الإسلامي، وفي طريقه إلى هناك مر بمديني الإسكندرية والقاهرة، فتركا في نفسه أثرا لم تمحه رحلته إلى البلاد الحرم، ثم بقي في بلاد الحجاز تسع سنوات قضاها متنقلا بين مكةوالمدينة ينهل من علم وفضل فقهائها وعلمائها تارة، وعابدا معتكفا بالبيت الحرام أو بمسجد المدينة تارة أخرى، أو متنقلا يسعى في مناكبها للاتجار في بعض المحاصيل سعيا وراء كسب الرزق حتى يستطيع التفرغ للعبادة والعلم، دون أن يمد يده للاستجداء، أو أن يكون عالة على أحد. رحيله إلى مصر مر على القنائي في أرض الحجاز تسع سنوات، حتى إذا كان الموسم العاشر له في مكة، التقى بأحد شيوخ وعلماء الصعيد وهو الشيخ مجد الدين القشيري القادم من مدينة قوص عاصمة الصعيد، فتسامرا وأحب كل منهما الآخر، وأراد الشيخ مجد الدين أن يصحب القنائي معه إلى مصر، لا سيما مدينة قنا، وهنا يقول السيوطي: "وما زال الشيخ يحاوره ويدلل على حججه، وعلى أن عبد الرحيم ليس له ما يربطه بمكةوالمدينة أحد أو شيء، وأن واجبه الإسلامي يدعوه إلى الإقامة في قوص أو قنا، ليرفع راية الإسلام، وليعلم المسلمين أصول دينهم وليجعل منهم دعاة للحق وجنودا لدين الله.. وأخيرا وافق عبد الرحيم على الرحيل إلى مصر فجاء بصحبة الشيخ مجد الدين القشيرى الذى كان يعمل حينئذ إماما بالمسجد العمري بقوص، وكانت له مكانته المرموقة بين تلاميذه ومريديه، لكن عبد الرحيم لم يرغب البقاء في قوص وفضل الانتقال لمدينة قنا تنفيذا لرؤى عديدة أخذت تلح عليه في الذهاب إلى قنا والإقامة بها، ولأن قوص ليست في حاجة شديدة إليه، فقد كانت وقتها غاصة بالعلماء والفقهاء وكبار المفكرين من أهل الدنيا والدين". قضى القنائي ثلاثة أيام بقوص، ثم ذهب إلى قنا فالتقى بالشيخ عبد الله القرشي أحد أولياءها الصالحين، فساعد جو قنا الهادئ الشيخ عبد الرحيم على حياة التأمل، فأمضى عامين كاملين يتعبد ويدرس ويختلي بنفسه ليتعرف على خباياها ولا يقطع عليه هذا الاختلاء وذاك التعبد إلا خروجه للتجارة التى يعتمد عليها في معاشه، فقد كان رحمه الله اتخذ لنفسه منهاجا لا يحيد عنه طوال حياته، وخلال تلك الفترة صدر قرار من والي مصر بتعيين الشيخ عبد الرحيم شيخا لقنا وأصبح من ذلك اليوم يسمى بالقنائي. ثم رحل عنا الإمام العالم عام592ه 1196م بعد أن قضى أكثر من نصف عمره في مصر، تاركا لنا مؤلفات عظيمة رغم قلتها منها: تفسير للقرآن الكريم، رساله في الزواج، أحزاب وأوردة، كتاب الأصفياء.