في الثالث من مارس عام 1924 ألغيت الخلافة بقرار من المجلس الوطني الكبير في أنقرة. أحاطت القوات قصر دولمة بهجت. كان عبد المجيد ) خليفة المسلمين ( يقرأ القرآن حتى وقت متأخر من الليل، عندما جاءه عدنان بيك وحاكم الشرطة لإخباره بأنه يجب أن يرحل من المدينة في الفجر وإلا تم اعتقاله. ترك السلطان القصر في سيارة إسعاف، كي لا يلحظه أحد، إلى محطة القطار. وفي منتصف الليل غادر، في قطار الشرق السريع أرض أجداده التي حكموها مدة خمسة قرون، ومعه أسرته الصغيرة وثلاثة موظفين وخادمين، متجها دون صخب الى قلب أوروبا التي طالما حاربها أجداده. هذا المشهد التراجيدي لانهيار الإمبراطورية العثمانية والخلافة الإسلامية قد سبقته سلسلة طويلة من أحداث سبقت سقوط الإمبراطورية بدءا من ثورة تركيا الفتاة ضد السلطان عبدالحميد الثاني الذي علق العمل بالدستور مرورا بالهزيمة في الحرب العالمية الأولى التي شاركت فيها الامبراطورية العثمانية الي جانب دول المركز المانيا والنمسا المجر، وما تبع تلك الهزيمة من توقيع الدولة العثمانية على اتفاقية سيفر التي تقر بتنازل اسطنبول عن كل الأراضي غير الناطقة بالتركية، وما استتبعها من رفض القوميين الأتراك الراغبين في إقامة جمهورية تركية لتلك الاتفاقية، وإعلان حرب التحرير التي تصدت لهجمات الأوروبيين بقيادة مصطفى كمال ، الملقب بعد ذلك بأتاتورك. خسرت الإمبراطورية العثمانية متعددة الأعراق والقوميات 75% من الأرض و85% من سكانها وكسب الجمهوريون بحرب التحرير ومعاهدة لوزان- التي ألغت معاهدة سيفر- تركيا بحدودها الحالية، وأعلنت الجمهورية في 29 أكتوبر 1923. وبهذا أصبح لدى الجمهوريين دولة، وباتوا في حاجة إلى شعب لهذه الدولة. أراد أتاتورك تركيا دولة قومية علمانية حديثة أراد مؤسسو الجمهورية التركية إقامة دولة قومية علمانية حديثة متجانسة على النمط الغربي. وكان أتاتورك أمام خيارين ، إما إقرار مبدأ المواطنة كما فعلت فرنسا إبان الثورة الفرنسية واعتبار كل من يعيش على أرضها مواطنا، أو خلق أمة تركية متجانسة. وبدلا من الخيار الأول الملائم لدولة يعيش فيها الى جانب الأتراك السنة والعلويين بلغاريون وألبان وبوسنيين وعرب وأرمن وأكراد ومسيحيين أرثوذكس يعيشون فيها منذ عهد الإمبراطورية البيزنطية ويهود سفرديم لجأوا الي القسطنطينية بعد سقوط الأندلس ويهود أشكيناز جاءوا من أوروبا الشرقية؛ لجأت النخبة الكمالية (نسبة الي مصطفى كمال أتاتورك ) إلى الخيار الثاني، وهنا ظهرت المعضلة الأولى التي تعاني منها تركيا حتى هذا اليوم والمتمثلة في تعريف من هو التركي؟ ولحل تلك المعضلة لجأت النخبة الى خدعتين، الأولى باعتبار كل المسلمين أتراكا، وغيرهم من المسيحيين واليهود أجانب محليين. والثانية هي إعلاء شأن ثقافة أتراك المدينة السنة الأكثر ميلا للتغريب، وجعلها مثالا يحتذى به الأمر الذي وطد التوتر الثاني الذي تعاني منه تركيا منذ الإمبراطورية العثمانية حتى اليوم، وهو التوتر الدائم بين النخبة الحضرية العلمانية والأقاليم الأكثر تدينا، التي ترفض أن تقودها النخبة. كانت أذرع الدولة الرئيسية، وهي الجيش والقضاء وحزب الشعب الجمهوري إضافة الي التعليم هي الأدوات التي تقود بها الدولة الشعب الى الحداثة وفقا للمبادئ الستة التى وضعها أتاتورك في العام 1931 وهي القومية التركية والعلمانية والجمهورية والدولانية والتحول الثوري الدائم وخلق محتمع متجانس أوالشعبية. فالجيش يعتبر نفسه عماد الدولة ، المؤسس والضامن لبقائها واستمرارها، ويتكون في الأساس من أبناء الطبقات الفقيرة من الأقاليم غير الحضرية، حيث يجري تعليمهم جيدا فتهتم المدارس العسكرية بالجانب الفكري أكثر من أي مدرسة أخري في تركيا، إضافة الي مجالات التكنولوجيا وعلوم الطبيعة، وهو ما بدأ في أواخر عهد العثمانيون علي يد السلطان محمود الثاني. كما يؤمن الجيش بالعقيدة الكمالية إيمان تام، ويعزي اليها تأسيس الدولة والحفاظ عليها. يهدف الجيش بتدخلاته المستمرة في السياسة إلي خلق المجتمع الكمالي العلماني كما تصوره أتاتورك، فمن أسس الدولة لن يتركها تضيع من يده بسهولة. والسلطة القضائية هي الذراع الثاني للنخبة. لتقوم بحماية الدولة من الأعداء الداخليين عن طريق تدخلاتها المستمرة من منع أحزاب وحل أخرى وإقصاء معارضيين سياسيين ومنع كتاب وناشرين وصحفيين من العمل تحت ذريعة تهديد الدولة أو العلمانية. أما الذراع السياسي فهو حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه أتاتورك عام 1924 والذي انفرد بالسلطة منذ تأسيسه حتى أول انتخابات ديمقراطية بعد الحرب العالمية الثانية. ويعتقد توينبي في تصوره لصيرورة الحضارات أن مع تحول الأقليات المبدعة (مؤسسى الدول والحضارات) الى أقليات مسيطرة يبدأ التحلل والانهيار، وتجابه تلك الأقليات تحديات إما من بروليتاريا خارجية (أعداء خارجيين) أو من بروليتاريا داخلية (وهم طبقة المهمشين الذين ضاقوا من استبداد وتعنت الأقلية المسيطرة. وهو ما حدث في تركيا فمع أول انتخابات ديمقراطية بعد الحرب العالمية الثانية صوتت الأغلبية الديموغرافية المهمشة من أبناء الأقاليم الي الحزب الديمقراطي ذلك الحزب الريفي والمحافظ دينيا، والذي تأسس 1946على يد الإقتصادي جلال بايار ورجل السياسة عباس مندريس والخبير في الشؤون الخارجية فاتن رشدي زورلو. حصل الحزب علي 57% من مقاعد البرلمان، وهي أعلى نسبة يحصل عليها حزب تركي في انتخابات ديمقراطية حتى الآن. سعى الحزب إلى إطلاق الحريات الدينية، ووضع قانون للتأمين الصحي وقانون العاملين واهتم بالتعليم. كما اهتم بشكل خاص بإنشاء الطرق بين الأقاليم والمدن مما مكن سكان الأقاليم الفقراء بالقدوم للمدينة لبيع منتجاتهم لأول مرة، وخلق فرص عمل لهم بالمدن. حتى حدث الإنقلاب العسكري الأول عام 1960. وأعدم كل من عباس مندريس و فاتن رشدي زورلو وينجو جلال بايار من الاعدام نظرا لسنه المتقدمة، لتعود السلطة في يد النخبة من جديد. كان التحدي الثاني من المهمشين الذين جاءوا إلي المدن بحثا عن فرص عمل، وكونوا عشوائيات سكنية بها لينتقل التوتر الدائم بين المدينة والإقليم لداخل المدن نفسها، في فترة حكم تورجوت أوزل ( 1983-1989) كرئيس للوزراء ومن (1989-حتى وفاته 1993) رئيسا للجمهورية حيث شكك تجمع حزب الوطن الأم الذي أنشأه أوزل في بديهيات الجمهورية الأساسية. بدأ أوزل بتحرير الاقتصاد وتحرير المجتمع والسياسة ولو بصورة جزئية، وبدأ المجتمع المدني يتشكل وازداد الرفض لسلطوية الدولة والرغبة في دمقرطة المجتمع من أسفل. أربكان مؤسس حزب الرفاه الإسلامي لعب بعد ذلك حزب الرفاه الإسلامي بقيادة نجم الدين أربكان ( الذي أسس أول أحزابه الإسلامية النظام الوطني عام 1969 والذي انقلب الجيش ضده عام 1997 بانقلاب ناعم عن طريق مذكرة احتجاجية ) دورا محوريا في رعاية المهمشين وطرح الإسلام كرؤية بديلة عن رؤية الدولة الا أن رؤية أربكان ظلت محافظة تصلح للتعبير عن مهمشي الاقاليم بقيمهم التقليدية. فكان لابد من ظهور تيار اسلامي جديد أكثر انفتاحا علي العلمانية وقيم الحداثة يعبر عن مهمشي المدن وهنا ظهر أردوجان وعبد الله جول عام 2001 بحزب العدالة والتنمية. حقق حزب العدالة والتنمية بفضل برجماتية أردوغان طفرة إقتصادية رفعت معدل دخل الفرد التركي ثلاث مرات كما حفزت الصناعات في الأقاليم كما في المدن الأمر الذي خلق طبقة متوسطة جديدة ومتعلمة من أبناء المهمشين سابقا. طبقة وسطى تتبنى الحداثة جنبا الى جنب مع موروثها الثقافي الإسلامي إضافة الى سحبه لصلاحيات جنرالات الجيش تدريجيا. ساعدت عدة عوامل علي خلق هذا التحول الديمقراطي التركي العلمانية ، حيث وضعت حدود للإسلاميين مكنتهم من العمل في إطارها. إدراك الإسلاميين عدم قدرتهم في التشكيك بالعلمانية دفعهم إلي تعلم كيف يعبرون عن أنفسهم بآليات ديمقراطية. تحرير الاقتصاد والعولمة مكنا من خلق طبقة وسطى جديدة ورجال أعمال وأكاديميين مسلمين الاتحاد الاوروبي ، قارب النجاة الخارجي لكل الجهات السياسية التركية الذي يستطيع الكل من خلاله تحقيق أهدافه، حتى المسلمون الملتزمون رأوا فيه ضمانة للمحافظة على هويتهم الإسلامية ومثلهم الأكراد. مطالبات المثقفين ومجموعات المجتمع المدني إلى دمقرطة البلاد من ليبراليين ويساريين وحتى مثقفى الإسلام من أهل المدينة الذين تأثروا بمحيطهم العلماني . شهدنا في الآونة الأخيرة محاولة انقلاب عسكري فاشلة قام بها بعض القيادات السابقة في القوات المسلحة بمساعدة بعض قيادات الصف الثاني. هي سادس محاولة انقلاب منذ تأسيس الجمهورية التركية نجحت الأربع محاولات الأولي أعوام 1960،1971،1980،1997وفشلت المحاولة الخامسة عام 2007 في إعاقة تولي عبدالله غول منصب رئيس الجمهورية. أما المحاولة السادسة منذ أيام فقد كانت محاولة متسرعة، لا تتحرك فيه المؤسسة العسكرية كوحدة واحدة. وشاهدنا كيف رفضت كافة الأطياف السياسية محاولة الانقلاب في ساعاته الأولى. وتمسك الجميع بالديمقراطية، إلا أن الإجراءات التعسفية التي تشهدها تركيا حاليا تنذر بعواقب وخيمة، فمع طول بقاء أردوغان وحزبه العدالة والتنمية في السلطة تارة كرئيس وزراء وتارة كرئيس جمهورية بعد نقل الكثير من الصلاحيات لمنصب الرئيس عبر تعديلات دستورية إضافة إلى القوة المفرطة التي يتمتع بها أردوغان داخل الحزب الذي يفتقر الى الديمقراطية، وفي الدولة. بعض قيادات الصف الثاني بالجيش تنقلب على أردوغان من الممكن أن تتحول القوى الحداثية الإسلامية لأقلية مسيطرة. ربما تسعى بعد ذلك نتيجة لانحسار الصراع مع العلمانيين إلى تبني رؤية أكثر محافظة للدين ودوره في تسيير عمل الدولة. الأمر الذي نلحظة في إجراءات إردوغان من تسريح ستين ألف موظف حكومي في كافة أجهزة الدولة بحجة مناصرتهم للمصلح الإسلامي فتح الله غولن الضالع في محاولة الانقلاب كما يزعم أردوغان و غلق مئات المدارس التابعة له. اضافة الى رغبة أردوغان في إعادة حكم الإعدام، الذي ألغته تركيا في سعيها نحو الانضمام للاتحاد الأوروبي، لا لشئ إلا الانتقام ممن حاولوا الانقلاب عليه. الكثير من الإجراءات تشير الى ميول استبدادية عظمت لدى اردوغان المعروف عنه براجماتيته وذكائه! ربما مرجعها اعتقاده أن كافة أطياف المجتمع التركي رفضت الانقلاب رغبة فى زعامته لا حبا في الديمقراطية. أو ربما يرى محاولة الانقلاب فرصة لتأسيس الجمهورية الثانية على هواه وإعادة إنتاج قالب صب جديد ، ليس قالبا أتاتوركيا هذه المرة بل قالبا إردوغانيا ، لتعريف من هو التركي. المصادر تركيا بين الدولة الدينية والدولة المدنية الصراع الثقافي في تركيا .. راينر هيرمان . ترجمة علا عادل . القسطنطينية.. المدينة التي اشتهاها العالم – الجزء الثاني .. فيليب مانسيل . ترجمة د. مصطفى محمد قاسم مختصر دراسة للتاريخ الجزء الأول .. أرنولد توينبي . ترجمة فؤاد محمد شبل https://www.youtube.com/results?search_query=rainer+hermann http://www.turkpress.co/node/13861