الحرف يقتل "لاَ الْحَرْفِ بَلِ الرُّوحِ. لأَنَّ الْحَرْفَ يَقْتُلُ وَلكِنَّ الرُّوحَ يُحْيِي."[1] آية يرفعها خدام مدارس الأحد في وجه الأطفال بعد مشاهدة عمل فني يجسد قصة حياة القديس العظيم سمعان الخراز بطل واحدة من أهم قصص التراث القبطي والمتعلقة بنقل جبل المقطم. وهو ذاك الدباغ الذي وضع المخراز في عينة بعد أن نظرت لساقي سيدة جميلة بشهوة. وهي قصة شهيرة يضرب بها المثل في العفة وقمع الشهوات في تراث الأقباط، وكانت تستند لنص كتابي واضح وصريح جاء كالتالي: "إِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ"[2] إلا أننا لم نستمع إلى كاهن أو خادم بالكنيسة في يومٍ من الأيام يدعوا الناس لفقدان أعينهم التي تنظر باشتهاء أو لقطع أيديهم التي ترتكب الخطيئة؛ بل كانت دائما القاعدة الحاضرة بأن الحرف يقتل وأن رحمة الله تسع الجميع. وعلى عكس تلك القاعدة الهامة؛ لجأ المساندين لشعار لا طلاق إلا لعلة الزنا للفهم الضيق لبعض النصوص الواردة في ذلك الصدد ومن بينها الآيتين الشهيرتين الأولى: "وَقِيلَ: مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَلْيُعْطِهَا كِتَابَ طَلاَق. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إلاَّ لِعِلَّةِ الزِّنَى يَجْعَلُهَا تَزْنِي، وَمَنْ يَتَزَوَّجُ مُطَلَّقَةً فَإِنَّهُ يَزْنِي"[3]. والثانية : "فتقدم الفريسيون وسألوه: هل يحل للرجل أن يطلق امرأته؟ ليجربوه، فأجاب وقال لهم: بماذا أوصاكم موسى. فقالوا: موسى أذن أن يكتب كتاب طلاق، فتطلق، فأجاب يسوع وقال لهم: من أجل قساوة قلوبكم كتب لكم هذه الوصية، ولكن من بدء الخليقة، ذكرا وأنثى خلقهما الله من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسدا واحدا. إذا ليسا بعد اثنين بل جسد واحد فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان"[4]. وتختلف الطوائف المسيحية في رؤيتها وفهمها لنفس النص؛ فالكنيسة الكاثوليكية مثلاً ترفع شعار "لا طلاق على الإطلاق" وهي كنيسة تقليدية أيضاً تستند إلى نفس النصوص ونفس الكتاب المقدس. الأمر الذي يوضح مدي تفاوت القراءات والفهم والخلاف حول نفس القضية، وهو ما يوضح أن من وضعوا لائحة 1938 كانت لديهم رؤية خاصة واتجاه واقعي للنظر في مشكلات يعاني منها المسيحيين وتمكنوا من إيجاد حلول لها بعيداً عن التمسك بحرفية النص وإهمال روحه. بطرس الرسول "صخرة الإيمان" أسطورة "لا طلاق إلا لعلة الزنا" يستند الإيمان المسيحي إلى قيمتين أساسيتين هما محبة الله للإنسان ورغبته في خلاص جميع النفوس البشرية[5]. ووفقاً للإيمان المسيحي فإن هذه المحبة تتخطي حدود العقل والمنطق حيث دفعت الله لبذل ابنه الوحيد فداءً عن البشرية[6]. وهذه المحبة تستطيع أن تسع كل شيء؛ حتى أنها قبلت من أنكر المسيح ثلاث مرات[7]. فكان المسيح يعلم أن بطرس الرسول الذي دعاه ب "صخرة الإيمان" سوف ينكره، ورغم ذلك قابله بالمحبة والغفران وعاد بطرس الرسول ليكرز بالمسيحية. "المسيح يحبك" هذه أول قيمة تُغرس في الطفل المسيحي منذ نعومة أظافره. يذهب ذلك الطفل إلى الكنيسة ويستمع لعظات الآباء الكهنة ولتعاليم خدام الكنيسة في مدارس الأحد حول محبة الله اللامحدودة للبشر؛ ويعلم أن الثبات على محبة الله والتمسك بها هو من صلب العقيدة المسيحية[8]. ينموا ويكبر ليتعلم قيمة أخري وهي أن المسيح جاء لخلاص النفوس وأن المسيح دعي يسوع لأنه يخلص شعبة من خطاياهم. فكيف لتلك القيم أن تتحطم على صخرة "لا طلاق إلا لعلة الزنا" ؟! فهل من الممكن أن تخلص أسرة استحالت المعيشة بين أفرادها واستحكم النفور والكراهية بينهم؟! البعض لا يولي اهتماما بقضايا الأحوال الشخصية ومشكلاتها؛ فغالباً تسيطر خيالات الحياة المثالية على تفكيرهم، واستحالة حدوث مشكلات داخل أسرة مسيحية مؤمنة، وأن سلامة الاختيار ستحول في النهاية دون حدوث أية مشكلات. ولكن هؤلاء لم يدركوا أن هذه الخيالات والأحلام الوردية عن الحياة الرومانسية التي لا مكان للخلافات فيها؛ سوف تتحطم على صخرة الواقع والتداخلات الأسرية والمجتمعية. وفي اعتقادي أنهم لم يضعوا في اعتبارهم أننا بشر ضعفاء نصيب ونخطئ ونحتاج للصفح والغفران. كنت من بين هؤلاء، فلم أكن أرى في دعاوي المطالبين بعودة لائحة 1938 أي منطق. فكيف لهم أن يطالبوا بمخالفة الكتاب المقدس الذي قال "لا طلاق إلا لعلة الزنا" بالعودة إلى لائحة وضعها– أستغفر الله العظيم–علمانيين. لم أكن أعطي لنفسي مساحة للتفكير والتأمل حول أبعاد تلك المسألة؛ فكنت أحمقا يتعامل بمنطق "البابا قال ايه؟!"؛ حتى أنني لم أجهد نفسي في البحث لأكتشف أنه لا توجد آية لا طلق إلا لعلة الزنا من الأساس! كنت أحمق حتى اصطدمت بواقعية الحياة؛ وتلامست مع مشاكل أسرية حقيقية لأقارب وأصدقاء وجيران ومعارف؛ فحينها فقط عرفت أنه ثمة شيء خطأ. تظاهرة تطالب بحق الطلاق عكفت خلال العام والنصف الماضي على دراسة أزمة الطلاق والزواج الثاني لدي المسيحيين في مصر؛ وبخاصة الأقباط الارثوذكسيين الذين يمثلون أغلبية مسيحيي مصر. أجريت خلالها مقابلات مع أصحاب مشكلات ومع قيادات دينية وبعض الذين كتبوا عن هذه القضية، وأجريت بحثاً قانونياً متعمقاً خلصت من خلاله أن بنود لائحة 1938 قد قدمت الحد الأدنى من الحلول الواقعية لمشكلات معقدة لم يعد من الممكن تجاوزها. كانت لائحة 1938 تتيح التطليق لتسع أسباب هي: 1. الزنا (مادة 50). 2. الخروج عن الدين المسيحي (مادة 51). 3 الغيبة لأكثر من 5 سنوات (مادة 52). 4.الحكم على أحد الزوجين بالسجن لمدة تزيد عن 7 سنوات (مادة 53). 5.الإصابة بالجنون أو مرض غير قابل للشفاء أو إصابة الزوج بالعجز الجنسي لمدة 3 سنوات (مادة 54). 6. الاعتداء على الزوج الآخر (مادة 55). 7. سوء السلوك (مادة 56). 8. الإساءة أو الإخلال الشديد بواجبات الزوجية الذي ينتهي الفرقة، واستحكام النفور بين الزوجين لمدة ثلاث سنوات فأكثر (مادة 57). 9. رهبنة أحد الزوجين (مادة 51). البابا مكاريوس الثالث الذي صدرت لائحة 38 في عهده وقد يرى البعض أنه من بين هذه البنود ما هو مخالف لتعاليم الإنجيل؛ وأن من وضعها هم العلمانيون في انحراف عن رسالة المسيحية؛ ولكنى أعتقد أن هؤلاء مازالوا يتعاملون مع القضية من منطلق "البابا شنودة قال إيه؟"؛ لا من منطلق قراءة ودراسة أكثر استيعاباً للرسالة الأسمى للمسيحية. وبدراسة أحكام المحاكم العليا سوف يتضح حجم الأزمات التي كانت تلك البنود توفر حلول لها؛ فمثلاً كيف لزوجة تتعرض للعنف والإهانة بشكل متكرر من قبل زوجها، أن تحيا حياة أسرية سليمة تنتهي بالخلاص؟! أيضاً كيف لزوجة يعاني زوجها من أمراض مستعصية تحول دون قيام حياة زوجية طبيعية بينهم؛ أن تستمر في حياة زوجية غير موجودة بالأساس؟! وهل المطلوب من المسيحيين أن ينتظروا الوقوع في خطيئة الزنا حتى نقبل الفصل بين زوجين استحالت العشرة بينهما؟ في تقديري أن تلك البنود مثلت الحد الأدنى لحل مشكلات وأزمات في منتهى الخطورة، وأنها باتت تحتاج للتطوير والتحديث لمواكبة تغيرات العصر وتعقيدات المشكلات. كما أنها جاءت في الإطار الأعم والأشمل للمسيحية وهو محبة الله وخلاص النفوس. فإن كان الله يحبنا ويريد أن يخلصنا جميعاً؛ فكيف يضع قاعدة تحول دون تحقيق الهدف الأسمي؟ هل الله رسائله متناقضة أم اننا من أساء فهمها؟ الخلاصة آن الأوان للاعتراف أن المسيحيين عاشوا لما يزيد عن أربعة عقود في مشكلات بسبب قراءة – في تقديري – خاطئة لبعض النصوص الدينية. وليس من العيب أن نعترف ونقر الأخطاء فلا أحد معصوم لأننا بشر نصيب ونخطئ؛ وكما أشرت في المقال الأول أن الكنيسة ظلت منذ عام 1938 وحتى السبعينات تطبق قواعد اللائحة محل الخلاف. [1] رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس 3: 6. [2] (متى 5: 29). [3] (متى 5:32). [4] (مرقس 10: 2-9) [5] "لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ". (لوقا 19: 10). [6] " لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ." (يوحنا 3: 16). [7] "فقال: أقول لك يا بطرس: لا يصيح الديك اليوم قبل أن تنكر ثلاث مرات أنك تعرفني" (لوقا 22:34) [8] "اَللهُ مَحَبَّةٌ، وَمَنْ يَثْبُتْ فِي الْمَحَبَّةِ، يَثْبُتْ فِي اللهِ وَاللهُ فِيهِ" (رسالة يوحنا الرسول الأولى 4: 16)