منذ بضعة أيام فاجأني ابني الصغير ذو السبعة أعوام بسؤال "يعني إيه شلن يا بابا؟"، وعرفت أنه سمعني وأنا أحكي بعض الذكريات التي ورد فيها لفظ شلن وبريزة مع أحد أقاربي. فاجأني السؤال حقا، لأنني تذكرت وقتها أنني سألت والدي في صغري "يعني إيه تعريفة؟"، وابتسمت عندما وجدت نفسي أتحدث تماما كما كان والدي يتحدث، حيث قمت باستعراض ذكرياتي وأيامي الخوالي وطفولتي، وكيف كانت الدنيا على أيامي كلها بركة وخيرا، وتذكرت كيف كنت أشعر بالملل من حديث أبي هذا حين يكرره على مسامعي في كل مناسبة، ولكنني اليوم أجيد التحدث بنفس الأسلوب. "الشلن" كان عملة نتداولها في أيام طفولتنا وربما مراهقتنا أيضا، وكانت له قدرة شرائية مقبولة، كان هناك تعدد في العملات كبير وغني، فكنا نقول الشلن والبريزة والريال والربع جنيه والنص جنيه، وهكذا كان حال والدي مع التعريفة والمليم والقرش صاغ، وحال جدي مع السحتوت والنكلة والبارة. ولكن ما أوقفني أن حال ابني اليوم أسوأ بكثير، ففي حالتي أنا وأبي وجدي كان الجنيه موجودا أيضا، وكان الوصول له فقط يختلف من جيل لجيل، تعدد هذه العملات الصغيرة على مر الزمن كان يجعل دائما من الجنيه قيمة معنوية ومادية، أما اليوم لا أعرف ماذا سيقول ولدي لحفيدي؟ وليس بعد الجنيه سوى الإفلاس. فوجئت بحقيقة أن أصغر عملة يتم تداولها اليوم هي "الجنيه"، والذي باتت قوته الشرائية مثل الشلن أو البريزة، فهو يشتري مثلا "كيس شيبسي أو باكو لبان"، وبعيدا عن علم الاقتصاد الذي لست على إحاطة به، فمن الناحية الاجتماعية المحضة لا أرى سوى مأساة في ضياع الأجيال القادمة، خصوصا حين تذكرت حديثا نبويا شريفا يقول "ستفتحون بلدا يذكر فيها القيراط"، وبغض الظر عن صحة الحديث أو عدم صحته إلا أنه يشير بقوة إلى أن المصريين "الشعب الغلبان منذ الأزل" لا يتعايش إلا مع التجزئة والتصغير للعملة وكأنها صفة مميزة له عن باقي الشعوب ليستطيع معايشة حياته اليومية ومآسيها، فمن الناحية الاجتماعية غياب هذه الحالة أظن أنه من الأسباب التي تثير توتر المصريين وسخطهم وأمراضهم، وأتمنى من علماء الاجتماع والدراسات الإنسانية أن يفيدونا أكثر في هذا الشأن. فالشعب الذي منذ الأزل يعتبر الجنيه أو العملة الرسمية شيئا ضخما وقيمته كبيرة -حتى أنني وجدت عملات مصرية تسمى "ربع عشر القرش" و"نصف عشر القرش" بتاريخ 1327 هجرية، يعني قبل أقل من قرن واحد- بات اليوم هذا لا يمتلك سوى وحدة نقدية واحدة تسمى الجنيه قيمتها ضئيلة للغاية، وهي عبارة عن عملة معدنية تشبه لحد كبير البارة والنكلة والمليم والشلن والبريزة وغيرها، وليس على الفرد سوى أن يعد منها ما استطاع مئات أو ألوفا ليعيش حياته اليومية. هل نعيش بالفعل انتهاء عصر وبداية عصر جديد؟، وهل هذا الوصف السابق يعد مؤشرا للوصول لمرحلة الانفجار الكبير الذي بات حتميا وطبيعيا؟ صحيح أن الشعب المصري وعلى مدار تاريخه عانى من الضغوط، وأغلب وقته كان "شعب غلبان" بمعنى الكلمة، حتى في أكثر العصور ازدهارا من الناحية السياسية، ولكن بالمقارنة، أليس ما يمر به اليوم مختلفا جذريا عن أي ضغوطات مرت به من قبل؟، حتى بات أغلبنا متوترا عنيفا فظا غليظا، وتفشت بيننا الأمراض النفسية والمجتمعية الرهيبة التي لم تكن موجودة حتى في أحلك الظروف التاريخية، ربما فعلا لأن ما نمر به يتنافي حتما مع طبيعة وادي النيل الضاربة في جذور التاريخ. هذه التساؤلات يجب أن تكون محط اهتمام النخبة التي من المفترض أنها تراقب هذا الشعب عن كثب لتعبر عن آلامه وأوجاعه، والذي بات يتوجع من الجنيه، بل إنه حتى غير قادر على استخدام مصطلح القرش التاريخي الموروث، فليس بمقدوره اليوم أن يقول "اللي معاه قرش محيره يجيب حمام ويطيره"، و"اللي معاه قرش يساوي قرش" و"القرش صعب" لأنه لم يعد هناك قروش وإنما جنيهات، جنيهات مهما زادت فهي لا تلبي احتياجاته الأساسية. قديما كانت جدتي تقول "القرش بيوجع"، فإذا كان القرش "بيوجع" في حضرة الجنيه، فهل لنا أن نقول اليوم إن "الجنيه بيقتل؟".