"اتفقنا على ألا نتفق"، عبارة تنطبق على حال نقاشاتنا اليوم، حتى تحول المشهد العام إلى ساحات تناحر واقتتال فكرى، كلُ يدافع عن رأيه رافعًا شعار "أنا ومن بعدى الطوفان"، وتناسوا أن فى الاختلاف رحمة. لا شك أن أحد أهم مكتسبات ثورة يناير ارتفاع سقف حريات الرأى، بعد انكسار حاجز الخوف لدى الغالبية، فأصبح الجميع يدلون بآرائهم ويتبارون فى الدفاع عنها، فى ظل تسارع الأحداث وسخونتها، فمع بدايات الثورة كان الحادث جلل، ولم يتوقع أحد سقوط نظام مبارك، الذى رسخ جذوره على مدار 30 عامًا، لكن "كمن أسس بنيانه على جرف هارٍ فانهار به"، التف الجميع حول شرارة الثورة ونفخوا فيها حتى اشتعلت، واتفقت كل الفئات على ضرورة التغيير، وتوحدت غالبية الآراء، إلا من اختلافات هامشية، وانتقلت السجالات الكلامية إلى الشارع المصرى، ومنها إلى المواطن البسيط، حتى الأطفال كان لهم نصيب من "المكلمة". توالت الأحداث حتى تقلدت جماعة الإخوان المسلمين السلطة، وتمايز الجمع إلى فئتين، إحداهما أنصار الجماعة والمتعاطفين معها، وثانيتهما رافضوا الإخوان، فاشتدت النقاشات وأصبحت أكثر حدة، حتى إزاحة الجماعة من المشهد السياسى فى 30 يونيو، فتحول الاختلاف إلى صراع أججه الإخوان مهددين بحرق مصر، وها هم يحاولون. على الجانب الآخر، اشتد ضيق وحنق ثوار 30 يونيو من الإخوان وأفعالهم، مترجمين غضبهم إلى استماتة فى الدفاع بل والارتماء فى أحضان نظام "ما بعد الإخوان"، حتى تحول المشهد العام إلى كتلة صراع مشتعلة تمسك كل صاحب رأى برأيه، مكفرًا من يخالفه، وأصبح النقاش كحوار الطرشان، لا يسمع بعضنا البعض. ولعب الإعلام بأنواعه "مرئي ومسموع ومقروء" دورًا بارزًا فى تأجيج الخلاف، فشيطن كل من عارض النظام، متخذًا من "محاربة الإرهاب" ذريعة لتبرير انحرافات المسؤولين؛ باحثا فى الوقت ذاته عن غرفة بجوار القصر الرئاسى يلهث من خلالها وراء أخبار صانعى القرار، فألبسهم ثياب الفاتحين، وسمم عقول البسطاء ممن ليس أمامهم نافذة للاطلاع على ما يدور من أحداث سوى "التليفزيون أو الرايو"، حتى اندثرت الحقائق فى غياهب الجهل. ورفع المتحاورون اليوم شعار "كل يغنى على ليلاه"، فمن يدافع عن النظام يقاتل بشراسة فى سبيل نصرة رأيه غير المبني على حقائق ودلائل محددة وواضحة سوى الكره لجماعة الإخوان ومؤيديها، ومن ينتقد بل يهاجم النظام يراه انقلابيا سطا على رئيس منتخب وسلب منه العرش العظيم، متجاهلا الأعداد التى خرجت بالملايين فى 30 يونيو، مطالبة برحيل النظام حتى نجحت فى مبتغاها، ومتربصًا بصناع القرار متصيدًا لأخطائهم من أجل الإيقاع بهم وإفشالهم؛ حتى يتثنى له التغنى بأمجاد الإخوان الزائفة. ونسوا أن الوطن يستوعب الجميع، وأن الله يؤتى الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء.