قال نابليون بونابرت إن التاريخ مجموعة من الأكاذيب متفق عليها، وعلى ما يبدو إن الجنزال الفرنسي على حق في كلمته هذه، فبقراءتنا لأول نسخة عربية مترجمة مباشرة عن اللغة اليونانية القديمة للنص الأدبي الأسطوري لحياة الأسكندر، تتجلى هذه المقولة، فالمؤلف مجهول الهوية، وحتى يكون هناك توثيق أطلق عليه النقاد المحدثون "كالليسثينيس- المزيف"، وفي السطور القادمة سنتعرف لماذا لقب بهذا الاسم. المترجم محمود إبراهيم السعدني، هو من نقل لنا هذه الأسطورة كاشفًا ما جاء فيها من أكاذيب يهودية، في كتاب صدر مؤخرًا عن المركز القومي للترجمة، وفي مقدمته قال المؤلف: إن التاريخ وحكمه على ما فات من الزمان والمكان والإنسان ليس دائمًا حكمًا عادلًا، وذلك لقلة الأدلة المؤكدة، وتضارب أراء المؤرخين القدامي والمحدثين، وفق قرب أو بعد هذا أو ذاك من الحدث التاريخي، ثم وكان ذلك هو أهم عناصر التأثير وتوجيه الرواية وجهة محددة حجم المصلحة أو الفائدة أو العائد المادي والمعنوي للمؤلف مما يكتب. وبناء على هذا يرى «السعدني» إننا لا نزال نعيش ازدواجية فكرية مقيتة، وندعي بغير الحق، أننا حريصون على هدف الموضوعية في الكتابة، وهو ما لا يوجد على أرض الواقع، وحتى يثبت المترجم صحة ما يقول، يكشف لنا الدور اليهودي المراوغ الذي قام به أولاد الأفاعي- الاسم الذي أطلقه عيسى عليه السلام على بني إسرائيل في إنجيل متى- من تزيف وتحريف لسيرة حياة الأسكندر؛ حتى فضحهم عداؤهم ضد الرومان، ليقوم المؤلف اليهودي المجهول آنذاك بكتابة نص أدبي أسطوري ينتصر فيه لليهود وإن كان على حساب حقائق تاريخية. وحتى نطلع عن قرب عما حدث ونفهم أكثر، يعرض لنا "السعدني" ملامح من الخليفة التاريخية التي دارت فيها الأحداث، ويبدأ مع الاحتلال الروماني لمصر عام 30 ق.م، إذ ساءت أحوال اليهود وتبدلت ما دفعهم للتآمر وإحداث القتن كالتي قاموا بها عام 38م، ما زاد الاضطرابات بينهم وبين العنصر اليوناني (أكبر جالية أحنبية في كانت تعيش على أرض مصر حينئذ)، فحاول كل طرف أن يكسب الإمبراطور الروماني إلى صفة بكل الطرق الشرعية، وحدثت بيهم الكثير من المنازعات حتى أرسل الإمبراطور كلاوديوس رسالة تهديد ووعيد إلى الطرفين؛ لكي يعيشا في سلام ووئام، ولكنه كشر فيها عن أنيابه لليهود الذي ينشرون الفساد في كل مكان هم فيه كالوباء الشامل. هنا يرى "السعدني" أنها كانت بداية الصدام بين اليهود ورموز السلطة الإمبراطورية في روما؛ حيث تمت تعريتهم تمامًا في أعظم رسالة دبلوماسية، مباشرة لطرفي الصراع الإسكندرية، ومما جاء في رسالة كلاوديوس لليهود "يجب عليكم الأ تضيعوا جهودكم في السعي وراء حقوق أكثر مما حصلتم عليها من قبل، وإن لم تمتثلوا لأنتقمن منكم بكل السبل، فأنتم قومًا تنشرون الوباء الشامل في أرجاء المعمورة"، بعد هذه الرسالة تزداد العداوة بين اليهود والرومان، حتى جاء الصدام الثاني بينهم، إذ تآمر اليهود على عاصمة الإمبراطورية نفسها، روما، والقصر الإمبراطوري نفسه؛ وحدثت الحادثة المعروفة بحريق روما أثناء غياب الإمبراطور نيرون عن العاصمة عام 64م، وتستمر المواجهة بين الرومان واليهود بعد ذلك لسنوات. وبعد سلسلة من المؤامرت بين اليهود والإمبراطورية الرومانية، يرحل بنا "السعدني" إلى أواخر القرن الثلاث الميلادي؛ لنقرأ إحدى حلقات التآمر اليهودي، ممثلة في كتابة "وصية الإسكندر" بقلم كاهن يوناني سكندري- يهودي الديانة لم يعلن عن اسمه، ما يثير العديد من الأسئلة: لماذا هذا التخفي؟ ولماذا هذا التأبين الآن لأعظم قائد نشر الحضارة اليونانية شرقًا؟ ولماذا الإصرار على تزييف التاريخ؟ النص الأسطوري لحياة الإسكندر، كُتب في القرن ال3 الميلادي، حينما كان الإمبراطور الروماني دقلديانوس في الإسكندرية، وذلك ضمن مادة شبة تاريخية أو بالأحرى من خياله الخصب، متخذا من سيرة الإسكندر مطية لما يريد أن يقوله، موجهًا حديثة كلية إلى العنصر اليوناني في الإسكندرية، في مجاملة ظاهرة، وبخاصة عند تأبين الإسكندر، بهدف إقامة جسر من جسور التفاهم والود وتكون جهة واحدة بين اليهود واليونان، ضد المسيحيين الذين يزداد أعداؤهم في الإسكندرية، وكانوا لا يزالون يتمسكون بدينهم رغم الاضطهاد الروماني لهم، هنا يقول السعدني "في رأي هذا السبب غير المعلن هو ما دفع المؤلف المجهول إلى كتابة نصه الأسطورى للتقرب أكثر إلى الرومان". بعد هذا العرض التاريخي، يوضح لنا "السعدني" لماذا اتفق النقاد على تسميه المؤلف المجهول ب" كالليسثينيس- المزيف"، وذلك لما فيه من زيف وبهتان لأخبار كثيرة عن الإسكندر، الذي اختزل سيرته، وفق أولوياته بوصفه مؤلفًا، كاهنًا يهوديًا يكتب باليوناني من أكاذيب وأباطيل تخدم أغراضه هو! قسم السعدني "الكتاب/ السيرة" إلى أربعة أجزاء؛ الأول: مولد الإسكندر وشبابه وحملته على طيبة، الثاني: وصوله كورنثوس وقيام الحلف، وزيارة معبد الربة أثينة، وحتى دخوله مصر ووصوله إلى آسيا بعد هزائم الفرس، الثالث: غزو الهند واقتفاء أثر الملك بوروس، وعبور الصحراء الكبرى، وبودار الرغبة في العودة لدى الجنود والضباب، والرابع: وهو الأخير عبارة عن وصية مزيفة باسم الإسكندر في صفحات قليلة؛ حيث يدعي فيها المؤلف عن لسان الإسكندر مباشرة أوامر تنفذ بعد وفاته ومنها ضرورة تطبيقها. ووفقًا لدراسة "السعدني" النقدية لهذا النص الإسطوري، نكتشف معه بعض الإدعاءات المزيفة التي جاء بها المؤلف منها: إن الإسكندر هو ابن نيكتانيبو، أخر فرعون مصري، الذي كان أيضًا ساخرًا وهرب إلى مقدونيا وخالط الملكة أوليمبياس، زوجة فيليب الثاني، في صورة الآله آمون فأنجبت الإسكندر، أيضًا يدعي المؤلف أن عند تأسيس الإسكندرية، وبعد رؤية الإلة آمون/ الليبي في المنام، يقول للإسكندر "يا بني، يا إسكندر، إنك ولدت مني "، بعدها قام الإسكندر بتقديم القربان لآمون وأنشا محرابا له وقام بعملية تذهيب لتمثال له من الخشب وأهداه للإله، بعد أن كتب عليه النقش التالي: من الإسكندر إلى والده الإله آمون. أيضًا جاء في إدعاءات المؤلف الكزيف، إعلاء لقدر الكهنوت اليهودي عند مقابلته للإسكندر، وكيف أنه "خاف"، من مقابلتهم ونظام حياتهم وأزيائهم الكهنوتيه، وعندما سألهم عن إلههم الذي يعبدون أجابوا بأنه " لا يوجد إنسان يستيطع أن يصف ذلك الإله"، فعلق الإسكندر على ذلك بقوله: "باعتباركم خادمين لهذا الإله الحق، اذهبو، اذهبو، في سلام، فإن إلهكم هو إلهي أيضًا، ولسوف يكون بيني وبينكم سلام، لن أدمرك، كما فعلت مع بقية الأممم والقوميات، لأنكم تخدمون الإله الحق". وردًا على هذا الإدعاء الأخير يقول "السعدني": كالليسثينيس/ المزيف، هنا هو المصدر الوحيد القديم لمثل تلك المعلومات الأحادية والمنحازة تمامًا لجنسه وديانته؛ حيث قرر وأورد أحداثًا لم تقع أصلًا ولم يحدث أن أشار إليها أي مؤرخ تناول سيرة الإسكندر من قبل مثل بلوتارخوس أو أبيانوس، المؤرخ العسكري السكندري. أيضًا ما يؤكد أن هذا النص ما هو سوى إدعاءات يهودية بحته ليس له علاقة بحقيقة حياة الإسكندرية، أن اليهود مشغوفون بحب الذهب والفضة والغنائم، وهو الأمر الذي اتضح تمامًا في قائمة الهدايا التي أرسلتها الملكة كانداكي، ملكة مروى (بالسودان)، ردًا على خطاب للإسكندر بمقابلته عند الحدود لتقديم القرابين معًا للإلة آمون، وكان الرد من جزئين؛ الأول: ألا تعتبروا لون بشرتنا نقصية فينا، لأن أرواحنها أكثر بياضًا وبهاءً من أولئك الذين هم بيض البشرة لديكم، والثاني: قائمة الهدايا الملكية المرسلة مع سفراء كانداكي جاءت جميها من الفضة والذهب بكميات كبيرة جدًا. ويستمر المؤلف المزيف بذكر مثل هذه الخرافات، في كل مرحلة من حياة الأكبر حتى نصل إلى الختام مع نهاية الإسكندر وقتله وترحك بطليموس مع الموكب الجنائزي حتى وصوله إلى الإسكندرية؛ حيث دفن الإسكندر.