في بعض الأحيان، ربما تتساوى الحياة مع الموت في قطاع غزة، القطاع الذي بتر الاحتلال الإسرائيلي ساقه حتى غدا فاقداً توازنه ومقدرته على العيش الكريم. في قطاع غزة، أصبحت المقابر مأوى جديداً للعديد من العائلات التي فقدت بيوتها في الحرب الأخيرة عليه. فكيف يستطيع الأحياء أن يعايشوا فكرة الموت في صحوهم ونومهم؟ هل تعرفون أن قطاع غزة فيه من يموت مرتين؟ نعم، هناك من يموت مرتين فعلاً، وربما هناك من لا يعيش الحياة حتى لو كان يتنفس جزءاً من هوائها المليء بالرماد والفوضى. ومؤخراً، تم الكشف عن عدد كبير من العائلات التي أصبح مسكنها المقابر نظراً لخسارتهم الأخيرة لبيوتهم ومآويهم خلال الحرب الأخيرة على القطاع. وقد تم التحدث مع هذه العائلات بعد أن كشفت البديل في غزة هذه الصورة الضخمة من المأساة والحزن الذي يحطم القلب الإنساني. أجرى طاقم البديل حواراً مع أم علي، المرأة التي تربي أربعة أبناء لها في غرفة صغيرة بجانب بعض القبور، والتي قالت: "ماذا سنفعل إن حطَّم العدو بيتنا، دون أن نجد من يلم شملنا القديم في مكان غير هذه المقابر؟". ربما لم تجد أم علي من يمنحها بيتاً دافئاً كبيتها الذي كسرته الصواريخ وأجهضته مدافع العدو الصهيوني. وأضافت أم علي إلى قولها: "أن أعيش بين الأموات ربما يكون متساوٍ بطريقة ما مع المعيشة بين الأحياء الذين لم يشعروا بنا عندما رحلنا من بين الركام". هذه المرأة عظيمة بالطريقة التي جعلتها تتخلى عن العيش بين أولئك الأحياء الذين لم يشعروا بدور الحياة القاسي تجاه هذه العائلة التي ستبقى كريمة على مر الزمن. أما عن المواطن خميس كحيل (27 عاما) فلم يجد مأوى له ولعائلته سوى خيمة صغيرة داخل أحد المقابر وسط مدينة غزة. ويقطن كحيل برفقة زوجته وثلاثة من أطفاله داخل الخيمة التي أقامها بين قبرين للموتى يلفها النايلون المقوي وسقف من الصفيح بعد أن فقد غرفتين من الاسمنت كان قد بناهما في أطراف المقبرة في غارة إسرائيلية استهدفتهما خلال الحرب الأخيرة على القطاع. ويجاور كحيل وعائلته في السكن داخل المقبرة 15 عائلة أخرى تعيش في غرف من الصفيح ويعاني أفرادها أوضاعا اقتصادية صعبة وفقراً مدقعاً. وتقتات تلك العائلات على بقايا طعام العائلات ميسورة الحال وخضروات شبه فاسدة يجدونها هنا وهناك. ويشكو كحيل قلة العمل في قطاع غزة بسبب الحصار الإسرائيلي وإغلاق المعابر وإن وجد عملا "يكون بأجر زهيد لا يسد رمق العائلة". ويرفض كحيل اعتبار المبنى الذي كان يسكن فيه وعائلته قبل القصف الإسرائيلي مخالفا، ويشكو من "تقصير المسؤولين الفلسطينيين والمؤسسات الفلسطينية والخيرية العاملة في قطاع غزة بعدم التوجه إليهم لحصر الأضرار وتعويضهم أو إعادة بناء منزله أسوة بمن دمر منزله خلال الحرب الأخيرة على غزة". أما عن المواطن محمد النجار فقد ناشد حكومة التوافق الوطني بأن تقف عند مسؤولياتها تجاه أبناء الشعب الفلسطيني قائلاً: "نحن لا نريد شعارات ونريد أن تبدأ حكومة التوافق بخطوات عملية على الأرض من شأنها أن تغير أحوال الفلسطينيين عموماً وأبناء غزة على وجه الخصوص، لا سيما وأنَّ غزة تتعرض كل يوم لشكل جديد من أشكال المعاناة والقسوة التي يحيكها ويسقطها العالم عليها"، ودعى النجار الحكومة بأن توفر له منزل يأويه وعائلته من برودة الشتاء وحر الصيف وأن توفر له أدنى مقومات الحياة. وتابع النجار للبديل: "تصوروا فكرة العيش في مقبرة، هذا يعني أن يستيقظ أطفالك ليلاً مرعوبين من فكرة وجودهم بين الأموات، إضافة إلى الكلاب الضالة التي تكون في المحيط، وخطورة وجود الأفاعي والزواحف السامة" أما عن زوجة المواطن النجار، فقد ناشدت الجميع "توفير بيت لها ولأطفالها مثل بقية أطفال العالم". وتقول الزوجة: "لا يوجد مكان لأطفالي للعب فيه سوى القفز على قبور الموتى فهو المتزه الوحيد بالنسبة لهم". في المقابل، اعتبرت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية الفلسطينية أن سكن تلك العائلات في المقابر يمثل تعديا على حرمتها وحرمة الأموات. ويقول مدير الوزارة محمد سالم للبديل، إن جميع المقابر في قطاع غزة هي أراضي وقف إسلامي. ويضيف سالم: "ما يمنعنا من إزالة التعديات هو مراعاة حال الشعب الفلسطيني المحاصر، حيث لا يجد هؤلاء مأوى ولا ملجأ لهم وهم موجودون في هذه المقابر منذ عشرات السنين". وحول إمكانية إيجاد أماكن أخرى لإسكانهم فيها يوضح سالم: "الشعب الفلسطيني في قطاع غزة محاصر منذ ثماني سنوات وهذا الحصار ألقى بظلاله على المواطن وعلى الحكومات الفلسطينية المتعاقبة". ويضيف سالم: "إن وجود هؤلاء في المقابر هو انتهاك لحرمتها وعليهم أن يغادروها"، مشيراً إلى أنَّ وزارته لا تستخدم القوة معهم مراعاة لظروف الأمر الواقع التي يمر به الشعب الفلسطيني. هكذا تطوي البديل حكاية أخرى من حكايات المعاناة والألم التي يعشيها شعب غزة الذي يواجه المخاطر بكلِّ أشكالها، والذي يعيد صياغة نفسه بسرد هذه المعاناة لكل العالم الإنساني محاولاً جلب الحب والحياة منه في الوقت الذي فيه تقع على عاتقه مجموعة من المؤامرات، وسيل من التعديات.