في فلسطين، وككل البلاد التي تصعد إلى إرثها وحضارتها لتروي إلى العالم حكايتها وأصالتها، وتؤكد على أحقيتها في البقاء وفي امتلاك الأرض، تلعب العمارة دوراً مهما في توثيق التاريخ، وذلك من خلال التأكيد عليه بعمارة الذاكرة، فكما قال المؤرخ والناقد الفني جون راسكن: "يمكننا أن نعيش بدون عمارة، كما يمكننا أن نتعبد بدونها أيضا، و لكن لا نستطيع أن نتذكر بدون عمارة"، وهنا يشير إلى أهم الأشياء التي يجب أن تكون في ذهن المعماري عندما يصمم فهو يُخلِّد ذاكرة ويترك بصمة ويعبِّر عن تاريخ أمة. وقد مارست إسرائيل التمييز العنصري والقومي والديني والأيدولوجي ضد الذاكرة الفلسطينية، و تعمل على سرقة الموروث الثقافي منذ سنوات عديدة، وتخطو نحو إزالة الهوية الأصيلة لهذا البلد على مر العصور. وليتم المحافظة على الإرث الحضاري ونقله للأجيال القادمة، يجب أن يتم التأكيد على الهوية الفلسطينية وحق الفلسطينيين في الأرض والبقاء. من هنا بدأت الكلمات الأولى لمشروع (بانوراما الإلياذة الفلسطينية – العمارة تروي ذاكرة شعب)، وهو عبارة عن مشروع لمجموعة من المهندسين المعماريين وهم: عبدالله سلمان الأعرج، عمر إبراهيم شاهين، محمد سامي برهوم، يوسف جمال أبو كاشف، ويشرف عليه أ.د. عبدالكريم حسن محسن. وقد تم إختيار مصطلح الإلياذة لأنها بقدر ما أرادت تخليد حروب طروادة، خلدت في الأدب والتعليم الإغريقي، بل صار لها أثراً كبيراً على الأدب العالمي، وساهمت في تمثيل الشرف والشجاعة. يقول الكاتب الإيطالي أليساندرو باريكو عنها: الوجه الآخر الجميل للحرب والمعبرة عن السلام. وهذا هو القاسم المشترك بين الذاكرة الفلسطينية والإلياذة الشعرية. البديل أجرت حواراً مع عبد الله الأعرج أحد المهندسين القائمين على هذا المشروع، وحول ما يسعى إليه هذا المشروع والكيفية التي جاءت منها الفكرة، قال عبد الله: "من البديهي القول أنَّ مكاناً واحداً لا يكفي لذاكرتين متضادتين تنفي كل منهما الأخرى، الذاكرة الفلسطينية منحوتة في المكان، في بيوت الفلاحين والمآذن والقباب التي تعلو في فضاء المدن في القدس ويافا وبقية مدن وقرى فلسطين، والذاكرة اليهودية المتوطنة في النصوص التوراتية كقصص وأحداث ومعارك تبحث عن أمكنتها المقدسة، ولأن العمارة هي السجل الذي يدون تاريخ الجماعات والشعوب صار لازماً توثيق ذاكرة الشعب والمكان. ولكي تبقى الذاكرة محتفظة بالحق وثابتة على الحفاظ عليه في ظل الهجمة الشرسة لتغييبه، وطمس هويته، وليظل ثابتاً في صراعه، محافظاً على مبادئه.. لابد من وجود ما يمثل و يروي الأحداث التاريخية العظيمة بكلِّ مصداقية و بلا أيِّ تزوير، ولأنَّ الرواية الفلسطينية مازالت مستمرة ولم تنتهِ بعد، فمن الواجب أن يتم إنشاء مبنى يعمل على قص وإحياء هذه الرواية. من هنا بدأت فكرة هذا المشروع وهو يسعى إلى توثيق والمحافظة على الإرث الحضاري الإنساني الذي تتناقله الأجيال على أرض فلسطين، كما ويعمل على توضيح حقيقة هذا الصراع الأزلي". حواراً هاماً يتابع فيه الأعرج حديثه لمراسل البديل متحدثاً عن الأنشطة التي يسعون إلى تنفيذها في هذه المرحلة، حيث أتبع الأعرج: "تم قبل أيام إنجاز المرحلة الأولى من هذا المشروع وهو مناقشة بحث التخرج وقد تكلل بالنجاح والحصول على الامتياز بفضل الله، ونعمل الآن على صفحة على الفيس بوك تحمل اسم (الإلياذة الفلسطينية) وقد فعلنا من خلالها هاشتاغ #اغتيال_الهوية ومن خلاله نعمل على توثيق وعرض ما تمت سرقته واحتلاله من إرث حضاري من قبل المحتل الإسرائيلي، ونسعى جاهدين خلال الأيام المقبلة إلى تفعيل التوعية المجتمعية من خلال الندوات والمحاضرات التي سيتم من خلالها طرح هذه القضية ومناقشتها وآلية مشاركة المجتمع في الدفاع عن هذه الذاكرة ونقلها للأجيال القادمة، كما ونعمل على الجزء الآخر من مشروع التخرج وهو النتاج الحقيقي للمعماري، والتي ستكون على هيئة مخططات معمارية ومجسم لتلك الكتل التي تحوي هذا المشروع والتي ستتكون من قاعات العرض البانورامي وقاعات العرض التحفية وكذلك مركز للتوثيق ومكتبة وحدائق متحفية وغيرها من عناصر المشروع والتي تجسد هذا الإرث الحضاري وهذه الذاكرة المليئة بالأحداث والتفاصيل". وحول تفاعل المواطنين مع هذا المشروع، أضاف الأعرج: "في بداية الأمر كانت هناك العديد من التساؤلات وخاصة أنَّ اللفظ غريب نوعا ما فمصطلح (الإلياذة) ليس بالدارج في المجتمع ومع تبين الفكرة في قسم العمارة ومع الأساتذة الأفاضل ومن ثم من خلال توضيحها للناس عن طريق صفحة الإلياذة الفلسطينية على الفيس بوك ومن خلال لقاءات على شاشات التلفزة بدأ التفاعل من الجميع مع هذا الطرح وعلى جميع المستويات، ونأمل أن يزداد هذا التفاعل أكثر وأكثر لكي نحقق الهدف من هذه الفكرة وهذا المشروع. يهود يقيمون احتفالا في مسجد أثري فلسطيني بعد ضمه للائحة التراث الاسرائيلي. معلومات كثيرة ومليئة بالتفاصيل تحدث عنها الأعرج في معرض حديثه عن محاولات الاحتلال ابتلاع ثقافة شعب بأكملها ونسبها إلى نفسه، ويعد احتلال التاريخ عبر تدمير الموروث الثقافي ونهبه، أخطر من احتلال الأرض، فالأرض تتحرر ولكن احتلال التاريخ من يمكن له أنيحرره؟ إن الأخطار العامة التي تهدد الموروث الثقافي وخصوصاً في فلسطين عديدة، نتيجة مرور البلاد بظروف خاصة تعمل على تدمير الممتلكات الثقافية، وتخطو نحو إزالة الهوية الأصلية التي امتاز بها هذا البلد على مر العصور. ولقد أثر الاحتلال الإسرائيلي الذي وقع على فلسطين على واقع القرى والمدن الفلسطينية بشكل كبير، يقول أنطوان شلحت الكاتب والباحث الفلسطيني: (سنة 1948 تم القضاء على المدينةالفلسطينية لتكريس الدعاوى الصهيونية التي تزعم أن فلسطين هي أرض جدباء من الناحية الثقافية، لأنَّ أكثر شيء يمكن أن يبرهن على وجود شعب فلسطيني في فلسطين هو: المدينةالفلسطينية) ويقول أيضا: (فقدان المدينة أو غياب المدينة كان نتيجة مخطط للمشروع الصهيوني. الصهاينة رأوا المدينة خطراً على المشروع الصهيوني برمته، ولذلك كانت حرب المشروع الصهيوني على المدينةالفلسطينية حرباً شرسة للغاية). ولم يحترم الاحتلال ما ورد في اتفاقية لاهاي، ولا أية اتفاقية خاصة بحماية الموروث الحضاري. ويشكل الموروث الثقافي الفلسطيني هدفاً رئيساً لمحاولات الطمس والإيذاء والتعتيم والمسح من خلال مسارين: الأول هو التهويد أو إضافة المسحة الاسرائيلية على هذا التراث. أما الثاني فهو مسح فلسطينية التراث وعروبته. وسعت إسرائيل من وراء ذلك لتحقيق هدفين، الأول خلق صلة بين اليهود والأرض، والثاني إضعاف الصلة بين الشعب الفلسطيني وأرضه. يتابع الأعرج حديثه قائلاً: "مارست إسرائيل في مجال التراث المادي ما يلي: - هدم مئات القرى العربية وتدميرها. - بعث الأسماء التوراتية وإطلاقها على المواقع الفلسطينية مثل: (شهل يزراعيل) بدل مررج بن عامر، ونهر (اليروكون) بدل نهر العوجا، ونهر (قيشون) بدل نهر المقطع. - تزييف التراث: فقد أصبح التطريز والحناء والكحل زينة إسرائيلية. وعلى صعيد التراث الفكري: تم منع تدريس التراث الفلسطيني في المدارس وتم تدريس التاريخ اليهودي بإسهاب، وتدرس الجامعات الاسرائيلية مساقات بعنوان (أرض إسرائيل) وتنظم الرحلات الاستكشافية، وتدعم الأبحاث في هذا المجال، وتفتتح مراكز الفلكلور الصهيوني. وفي المجال الفني: كانت ومازالت محاولات الطمس والتحريف، فالموسيقى الشرقية طعمت بألحان عبرية، والدبكة استغل المصممون كثيرا من حركاتها لتسويقها في الخارج كفنون إسرائيلية، وقامت فرقة الفنون الشعبية الإسرائيلية بتقديم عدد من نماذج الفلكلور الشعبي الفلسطيني، في أثناء مشاركتها في مهرجان اللوز بمدينة أغرغينتو الايطالية عام 2010م على أنه الفلكلور الإسرائيلي. وبحسب الاحصاءات، فقد ضمت دولة الاحتلال قرابة 23 موقعاً فلسطينيًّا لقائمة التراث الإسرائيلي من بينها أم العمد، بيسان، جبل عيبال في نابلس، الحرم الإبراهيمي، سهل مرج ابن عامر، عسقلان، قبر يوسف وهو مقام إسلامي شرق نابلس، مغارة أم التوأمين في بيت شيمش غرب القدس، ووادي الحمام بالقرب من قلعة حطين. وحقيقةً كما قالت الخبيرة الفلسطينية في علم الإجرام نادرة شلهوب: (شملت النكبة تخطيطاً لمحو الوجود الفلسطيني). وقد روّجت إسرائيل أمام العالم أنَّ فلسطين كانت أرضاً بلا شعب وبلا ثقافة، وأنَّ اللاجئين الفلسطينيين سيرحلوا بسهولة للبلدان العربية المجاورة، وبذلك تختفي الثقافة والحضارة الفلسطينية بسلاسة. وبالرغم من الاحتلال الإسرائيلي المستمر للأراضي الفلسطينية، إلا أنه تم العثور على بعض آثار التراث الفلسطيني العريق. وتثبت تلك الآثار القليلة الباقية لتاريخ فلسطين للعالم بأسره عراقة الثقافة الفلسطينية ورقيِّها، كما تثبت أنَّ التراث الفلسطيني أعظم من أن يزول، حتى لو مُحيت هوية المدن الفلسطينية التي ولد وازدهر فيها هذا التراث. تابع البديل حواره إلى الأعرج الذي أسهب قائلاً: "سنعمل في المستقبل القريب على تعميق هذه الفكرة إلكترونيا وذلك من خلال وجود موقع على الشبكة العنكبوتية وتطبيق على أجهزة الهواتف الذكية، كما نطمح أن تكون هذه الفكرة في المستقبل القريب مؤسسة عملية على أرض الواقع تحقق أهداف المشروع والتي تتلخص في التأكيد على الهوية الفلسطينية وحق الفلسطينيين في الأرض والبقاء، وتعريف الآخرين بتاريخ القضية الفلسطينية، إضافة إلى وضع وثائق ودلائل تبين الحق المسلوب في الأرض والتاريخ بعدما قام اليهود بسرقة التاريخ وتزييفه. ولعلنا نطلقها دعوة للمختصين والمهتمين في دعم هذا المشروع وتوفير سبل نجاحه لأنه مشروع قومي وطني يظل خالدا ما خلدت الأجيال ويساهم حقيقة في المحافظة على أحقية الأرض والصراع. وكما قالوا: (إنَّ الوفاء للأسلاف لا يعني الحفاظ على رمادهم، وإنما نقل اللهب الذي أشعلوه) وكما قال الراحل ياسر عرفات رحمه الله: (إن الشعوب مهما قسا عليها الدهر وامتد بها السير نحو الحرية والكرامة، لا تشعر بوجودها إلا إذا أيقنت أنها وريثة تاريخ يبوِّئها مكانة مرموقة بين الأمم، ويبرز استمرار هويتها واستمرار كينونتها). فريق الإلياذة الفلسطينية في هذه الصورة.. إحدى مضيفات شركة الطيران الإسرائيلية، ترتدي ثوباً فلسطينياً لنسبه إلى دولة الكيان، في محاولة واحدة من المحاولات الإسرائيلية لطمس الهوية وسلب التراث. محاولات اليهود لإزالة البلدات القديمة من المدن الفلسطينيةالمحتلة وإنشاء مباني حديثة بطابع معماري حديث لنفي الأصالة والعراقة عن المدن الفلسطينية. بطبيعته التي لا تتغير، يحاول الكيان الاسرائيلي طمس الهوية الفلسطينية بكل الوسائل وبشتى الطرق التي تخدم وجوده على هذه الأرض، ضارباً عرض الحائط كلَّ الحواجز التي قد تقف أمامه، خصوصاً في ظلِّ الوضع العربي المترهل الذي لا يقوى على الوقوف كي يصُدَّ شيئاً من هذه الانتهاكات التي لا تنتهي، ويدفع ثمنها في الغالب، فلسطينيون يدافعون عن الهوية.