تعددت الأسباب التي تدفع الإنسان في عصرنا الحديث للتدين، فطبيعة العصر المعقدة تجعل الإنسان محاصرا بالضغوط المختلفة التي تشكل عبأ شديد الوطأة عليه، وهو ما يدفعه للبحث عما يخفف من معاناته ليكون الدين أقرب ما يعينه على ذلك، ولا يعلم هذا الملتزم الجديد أن الدين قد يثقله بأعباء جديدة بعد أن تحول بحياتنا المعاصرة إلى ما يشبه المعادلات الرياضية الجامدة، التي لا تداوي عليلا أو تشفي غليلا، إثر غياب روحانيته التي تسمو بها النفوس، وترقى بها العقول، ويرى الجميع أثرها في السلوك، وذلك على يد متاجرين ابتُلي بهم الدين في عصور انحطاط نحياها. غاب العالم الرباني المربي على العلم والعمل الذي يعرفه الإمام الثّوري بأنه: "إنما يُتعلم العلم ليتقى به الله"، موصيا العلماء بأن يزينوا العلم، لا أن يتزينوا به، ومثله أوصى أُبي بن كعب: "تعلموا العلم واعملوا به، ولا تتعلموه لتتجملوا به، فإنه يوشك إن طال بكم زمان أن يُتجمل بالعلم كما يتجمل الرجل بثوبه". لقد ضل كثير ممن يقدمون أنفسهم علماء للدين عن طريق التدين الحقيقي، فشوهوا حقيقةُ التديُّن بأفكار وتصورات متشنجة وأفعال متشددة، وبكتابات وممارساتِ خاطئة خاصة، فجعلوا من الدينَ شعارًا للابتزاز والتكسُّب، ليصيب هذا السلوك الدينَ في الصّميم، لينصرفَ كثير من الناس عنه، أغرق هؤلاء الناسَ بمأثورات أوجبوا الالتزام بها، وأخذوا يبثون في الناس ما تنبته عقولهم الجدباء باسم الدين فصاروا نموذجا لغرور تنفر منه ثقافتنا الإسلامية، وعن مثل هؤلاء كتب الإمام أبو حامد الغزالي: "وفرقة أخرى علموا هذه الأخلاق، وعلموا أنها مذمومة من وجه الشرع إلا أنهم لعُجبهم بأنفسهم يظنون أنهم منفكون، وأنهم أرفع عند الله من أن يبتليهم بذلك، وإنما يبتلى به العوام دون من بلغ مبلغهم فى العلم، فأما هم فإنهم أعظم عند الله من أن يبتليهم فظهرت عليهم مخايل الكبر والرياسة، وطلبوا العلو والشرف.. وغرورهم أنهم ظنوا ذلك ليس تكبرا.. وإنما هو عز الدين، وإظهار لشرف العلم، ونصرة الدين.. وغفلوا عن فرح إبليس به غافلين عن تواضع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وتذللهم وفقرهم ومسكنتهم حتى عوتب عمر رضى الله عنه فى بذاذته عند قدومه إلى الشام فقال: إنا قوم أعزنا الله بالإسلام.. ولا نطلب العزة فى غيره". ويقول الإمام الغزالي أيضا: "اعلم أن آداب الظواهر عنوان آداب البواطن، وحركات الجوارح ثمرات الخواطر، والأعمال نتائج الأخلاق، والآداب رشح المعارف، وسرائر القلوب هي مغارس الأفعال ومنابعها، وأنوار السرائر هي التي تشرق على الظواهر فتزينها وتحليها. ومن لم يخشع قلبه، لم تخشع جوارحه، ومن لم يكن صدره مشكاة الأنوار الإلٰهية، لم يفض على ظاهره جمال الآداب النبوية". ولا يجد الباحث الجاد عن النجاة مع هؤلاء المدعين ما يبحث عنه من رضى على النفس واطمئنان يدفئ القلب واقتناع يسكن العقل، يضلله هؤلاء فيغفل عن حقيقة أن العلم لا يُطلبُ لذاته وأن تعلم الإيمان يكون قبل القران، وفي هذا يروي ابن تيمية عن الصحابيين الجليلين جُنْدُب بن عبد الله، وعبد الله بن عمر: تعلَّمنا الإيمان، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانًا" ويقول ابن القيم".. فكل إسلام ظاهر لا ينفذ صاحبه منه إلى حقيقة الإيمان الباطنة فليس بنافع حتى يكون معه شيء من الإيمان الباطن"، ويقول الإمام الشاطبي: "إنما يكون العلم باعثا على العمل إذا صار للنفس وصفا و خلقا". يبث المدعون من صنف ما ذكرنا بين الناس وهم "الدين المعلوماتي" ليبهروا أتباعهم بسيل المعلومات المنهمر، ليندفع الفرد في رحاب هذا التدين الزئف ويخرج منه بلا ارتقاء لعقل أو روح. ويصف ابن عاشور العلم الحقيقي الذي به يرقى العقل وتسمو الروح فيقول: "ليس العلم رموزا تُحَل، ولا كلمات تُحفظ ، ولا انقباضا وتكلفا، ولكنه نور العقل واعتداله، وصلاحيته لاستعمال الأشياء فيما يحتاج إليه منها، فهو استكمال النفس، والتطهر من الغفلة والتأهل للاستفادة والإفادة، وما كانت العلوم المتداولة بين الناس إلا خادمة لهذين الغرضين، وهما: ارتقاء العقل لإدراك الحقائق، واقتدار صاحبه على إفادة غيره بما أدركه هو. إذن فالعلوم التي تدرس إن لم تكن الغاية منها ما ذكرنا فهي عبارة عن إضاعة للعمر، لا تبلغ بالمتعلم غاية.