في قلب قاهرة المعز وشوارعها الضيقة التي تفوح منها عطر التراث والحضارة، تتواجد أسواق الأخشاب بمنطقتي «المناصرة ودرب سعادة»، تبيع الأخشاب المصرية الأصيلة، والأثاث ذو الخشب الزان الأحمر، الذى يتباهي الجميع بمعروضاته الحرفية عالية الجودة. لكن مسحة حزن تخيم علي الباعة، بل صمت يقتل المكان الذي كان يضج بزحام الزبائن الذين يشاهدون الموبيليا وأثاث الشقق الجديدة للعروسين؛ بعدما سيطر المارد الأحمر "الصيني" علي الأسواق ببضاعته البراقة ذات الجودة الرديئة والثمن القليل، فكثير من المحلات أغلقت أبوابها بعد إفلاس أصحابها وعزوف الزبون عن شراء المنتج المصري، واستبداله بنظيره الصينى. «هو فين سوق الخشب ده.. السوق مات خلاص.. من خمس سنوات ونحن نعاني بعدما فتحت الدولة ذراعيها لاستيراد الأثاث الصيني»، عبارات قالها بابتسامة ساخرة أراد بها الحاج محسن فتح الله، صاحب محل أثاث، أن يغطي علي حديثه المليء بالمرارة والأسي عن ركود الحالة الاقتصادية لأصحاب ورش الخشب. وأضاف الحاج محسن أن أغلب تجار السوق لا يعملون إلا في الخشب المصري الأصلي الدمياطي أو السكندري، أي الخشب الزان الأحمر، متابعا: «بعد أن فتحت الدولة الباب للمستورد الصيني الرخيص، لجأ إليه أغلب الزبائن، خاصة العرائس الذين يشترون أثاث الشقة، فيستطيع أي عروسين الآن ب25 ألف جنيه، أن يجمع متطلبات الشقة من حجرة نوم وأنتريه ومطبخ ونيش وحجرة أطفال. ولفت إلى أن الزبون يعرف بعد فترة قليلة أنه اشتري خشبا فاسدا وغير صالح للاستخدام، مؤكدا أن الخشب الصيني عبارة عن كرتون مغلف مضغوط خلف قشرة برونزية أو ذهبية لامعة لجذب المواطن فقط، مطالبا بضرورة أن يكون للدولة دور في الحفاظ علي عشرات التجار الذين يصممون علي الاستمرار في استخدام الخشب المصري الأصلي والأفضل علي الإطلاق من الصيني، وأن تفرض الدولة مزيدا من الرسوم والجمارك علي الخشب أو الأثاث الصيني الجاهز المستورد؛ حتي يصبح هناك توازن في أسعار البيع بين الأثاث الصيني ونظيره المصري. من جانبه، قال خالد محمد، صاحب محل أخشاب وأثاث بالمناصرة: «في الماضي كنا نفتخر كتجار ونجارين بالزان الأحمر عندما نعرضه للزبون، ونتباهى بمتانة الخشب وجودته، أما الآن، فلم يعد يهتم أحد بالأصل، وأصبح البحث فقط علي السعر الرخيص، والذى يتوافر في الصيني»، مضيفا أن هناك العشرات من ورش النجارة التي كانت تعمل علي تصنيع الخشب وتحويله إلي أثاث، أغلقت أبوابها، وتشردت عائلتها، واتجه صنايعية المهنة إلي أعمال أخري، حيث لم يعد هناك عائد مادي جيد؛ نظرا لارتفاع أسعار الخشب المصري الدمياطي أو الإسكندراني وتحميل المستورد لفرق أسعاره علي التجار وأصحاب المحلات، والذين بدورهم يحملون فرق السعر علي النجار وهكذا، في مقابل انخفاض لأسعار الأثاث الصيني الجاهز الذي لا يحتاج إلي ورش نجارة أو تصنيع. وفى نفس السياق، أوضح الحاج محمود الهمشري، صاحب محل أثاث بدرب سعادة، أن الشغل الصيني خرب بيتهم، معربا عن استيائه من غرق السوق المصري في الأثاث الصيني، وغياب دور شعبة الأخشاب بالغرف التجارية وعدم حمايتها للتجار المصريين والسوق المصري بشكل عام، متابعا أن المحل لم يعد يبيع في الأسبوع سوي قطعة واحدة، سواء كانت غرفة نوم أو أنتريه أو صالون، مشيرا إلى أنه اضطر للاستغناء عن نصف العمال؛ بعد عجزه عن صرف رواتبهم. وأكد عماد محمد، نجار بإحدي ورش "درب سعادة"، أن السوق المصري لا يحتمل وجود منافس له مثل الأثاث الصيني؛ لأن المقارنة غير عادلة من حيث الجودة والسعر لصالح الخشب المصري، حيث لا يمكن المقارنة بين خشب يصنعه الصينيون من الزجاج والبلاستيك المبكوس، وبين آخر يخرج من أعظم أشجار دمياط والإسكندرية ويدخل في صناعة التحف والانتيكات. ومن جانب آخر، يقول محمد شفيق، منجد أفرنجي بالمناصرة، إن المهنة في طريقها للفناء، وتجار الأخشاب يخسرون يوميا؛ نظرا للإقبال علي المنتج الصيني، متابعا: «مهنة صناعة الأثات تساعدها مهن كثيرة مثل النجارة والتنجيد والأوسترجي الذي يطلي الأخشاب، وكل هذه المهن فر منها العاملين؛ نظرا لانخفاض يومياتهم، بل غياب العمل في الأصل». وطالب "شفيق" بضرورة دعم الدولة لسوق الأخشاب في مصر، والحفاظ علي المهنة باعتبارها حرفة وجزءا من التراث، فبعد أن كانت مصر تصدر لدول تركيا وكندا والسعودية أجود أنواع الأثاث المصري، أصبحت الآن تستورد أردأ الأخشاب؛ لأنها الأرخص، لافتا إلى أن حجرة النوم الصيني ب 5 آلاف جنيه، فى مقابل حجرة النوم المصري التي تتجاوز 25 ألف جنيه. وعلي الجانب الآخر، كان لأصحاب محلات الأخشاب والأثاث الصيني، وجهة نظر مختلفة، حيث يقول محمد عوض، صاحب محل أثاث صيني حديث بالمناصرة، إنه لا يوجد مبرر للخسارة، فمنذ آخر خمس سنوات والسوق المصري للأخشاب يخسر بشكل كبير، مضيفا: «عندما قاربت علي الإفلاس، تحولت لاستيراد الأثاث الصيني، فهو مناسب لكل أسرة مصرية لا تنظر للجودة، لكن تريد أن تفرح بأبنائها المقبلون على الزواج». واختتم أنه يعلم جيدا مدى رداءة الخشب الصيني، حيث لا يحتمل أكثر من سنة أو شهور قليلة في الاستخدام، ثم تبدأ عيوبه في الظهور، من التقشير والتهشم، بل والكسر، وأنه لا يمكن أن يستخدمه في منزله؛ لأن عمره الافتراضي قصير.