كثيرًا ما نحيا فى هذه الحياة مأخوذين بالأمل فى غد أفضل مدفوعين بفكرة الحق فى الحياة، ثم نكتشف أننا مسيرون وفق منظومة الأقدار التى تتمخض دائمًا عن مفاجأة هى الأفضل على الإطلاق، فننهل منها طويلاً وبقدر المستطاع. حنان مرزوق النحراوى فتاة مصرية اختصرت الأقدار قدرتها على التعبير، فجاءت أدواتها البديلة أبلغ وأروع وأعمق أثرًا. اختارت أن تتعبد فى محراب الفن، فمارست طقوسه على أكمل وجه، وابتكرت أدواتها الأكثر قدرة على الصراخ والوصول بإحساسها للآخرين، واستحقت أن ينصبها المثقفون "قديسة الفن الصماء" القادرة على أن تفجر بريشتها ينابيع الدمع لدى المتلقى. لو حالفك الحظ وكنت على موعد مع لوحاتها المتحدث الرسمى باسم حنان النحراوى، لأدركت بلاغة الصمت، ولاستهوتك رسالة حانية مثيرة سرعان ما تجد طريقها إلى قلبك عبر خطوطها. فى سن السادسة داهمت الحمى حنان، ففقدت على أثرها القدرة على السمع والكلام، وكانت بداية عهدها بالصمت. التحقت ب "معهد الأمل للصم" بشبين الكوم، وهناك بدأت بذرة نبوغها الإبداعى تنمو رغم قلة الإمكانيات وضعف المناخ العام لاحتواء موهبة كحنان، فهى تشبه الشاعر نزار قبانى فى قدرته البالغة على رسم الكلمات وتجسيد الصور بالحروف، واختارت أن تتكلم بريشتها على اللوحات، فحملت لوحاتها تنوعًا ممتعًا فى أساليب الفن، حيث تنقلت كفراشات الضوء بين مدارس الفن المختلفة، فتارة تعتمد التجريد، وأخرى تتبنى التجسيد، وثالثة تطرق أبواب المدرسة الواقعية. وبين الحين والآخر تنهل من رحيق فن الكاريكاتير، فتنتزع منك الابتسامه بنفس قدرتها على انتزاع دموعك دون كلمات، ولا تملك فى هذه اللحظة سوى الإيمان ببراعتها. تعيش مع لوحاتها هموم واقعنا المعاش معبرة عن هم الإعاقة بشكل أساسى، من خلال أعمالها والتى تهتم فيها أيضًا بقضية الأمومة وقضايا الحرب والسلام والحب، إلى جانب قضايانا العربية والقومية. وتعترف حنان كثيرًا بأن الأعاقة أطلقت يدها، ولم تشكل لها قيدًا، مؤكدة أن نظرة الآخرين السلبية للصم والبكم هى التى تصيب المعاقين عادة بالاكتئاب. خاضت حنان النحراوى معركتها مع المسئولين عن الفن التشكيلى فى مصر؛ لأنهم لم يؤمنوا بموهبتها، ولم يلتفتوا إليها أصلاً، فلم تعبأ بتجاهلهم لها، واختارت التحدى سلاحًا لتقهر به إعاقة المجتمع المشلول، وثابرت وصمدت، وأخيرًا انتصرت بعد طول عناء. حصلت حنان النحراوى على العديد من الجوائز خلال مشوارها الفنى، أهمها جوائز معارض جمعية الفن الخاص فى هونج كونج سنة 1992، وبعدها معرض الشارقة سنة 1999، وتركيا 2000 و2001، والولايات المتحدة والمملكة العربيية السعودية سنة 2004. بعدها انحنت المؤسسة الرسمية احترامًا لفنها، وتبناها الدكتور محسن شعلان رئيس قطاع الفنون التشكيلية فى ذلك الوقت، محتضنًا معرضها الخاص الذى استضافه مركز سعد زغلول الثقافى، ثم الدكتور عبد السلام البنا عضو لجنة التحكيم فى صالون الفن الخاص بمركز سعد زغلول. من أكثر لوحاتها تعبيرًا عن واقع الإعاقة ومحاولة المعاق التكيف مع إعاقته وتحقيق حالة الاكتمال تلك التى تجسدها فى لوحة البدر المكتمل الذى يعتلى رأس كائن آدمى يقف منتصبًا محققًا اكتماله، وعلى يساره يحاول آدميون غيره التسامى للوصول لحالة الاكتمال، وأقصى يسار اللوحة يقبع جسد جاثٍ على ركبتيه فى أشد حالات الانكسار والانحناء، فى إشارة واضحة لنقيض الاكتمال عندما يقترن بإعاقة، ساعتها تتجسد حالة الانحناء المبالغ فيها. وإن كانت حنان النحراوى لا تؤمن بأن إعاقتها كانت سببًا فى إعاقة انتشارها الفنى، وتعترف بأن المجتمع هو الذى أعاقها وعرقل انتشارها، بل وسعى لوأد موهبتها لسنوات، إلا أنها اتصرت فى النهاية، واستطاعت أن تحفر اسمها بحروف بارزة فى عالم الفن التشكيلى.