التاريخ هو ذاكرة الأمة والباعث الأول لغرس قيم النضال الوطني أذكر حين كنت بالثانوية العامة كان التاريخ من المواد الأساسية للقسم الأدبي وأذكر كيف أن المنهج كان مقسماً لدراستين أفقية ورأسية عبر كتاب ضخم يبدأ من الإستعمار المملوكي ثم العثماني بكل ما يحويه من مؤامرات ودسائس ومراحل ضعف وقوة عبر ملوك وأمراء شكلوا تاريخ مصر بدماء شعبها ثم يتطرق المنهج للتاريخ الحديث منذ الحملة الفرنسية مروراً بالإحتلال الإنجليزي الذي جثم على صدور المصريين 70 عاماً أفرز خلالهم شخصيات وطنية باسلة خطت نضالها ضد الإستعمار بكل أشكالة بحروف من نور منذ عمر مكرم مروراً بعرابي ,مصطفى كامل ,محمد فريد سعد زغلول وانتهاء بالزعيم جمال عبد الناصر وثورته الخالدة. لم يكتف واضعوا المنهج بدراسة تاريخ مصر حتى اتفاقية السلام مع الكيان الصهيوني ,لكنه تحدث عن حركات التحرر العربي والأفريقي ودور مصر في دعم هذه الثورات بدراسة كل دولة على حده دراسة طولية منذ بدايات الاستعمار وحتى الاستقلال ,فكان الطالب يدرس تاريخ مصر مطلاً على تاريخ الشعوب في الوطن العربي ,فضلاً عن بعض الدول الأفريقية وهو يعلم جيداً أن سؤالاً إجبارياً كاملاً يأتي متضمناً ورقة الأسئلة لسرد تاريخ دولة ما منذ الاحتلال وحتى الاستقلال ,كانت الإجابة على هذا السؤال تمثل إحساساً خاصاً حيث يبدو التاريخ كتاباً مفتوحاً تجري على صفحاته بطولات لشخوص من لحم ودم نراهم رأي العين فيحركون مشاعر كامنة تثير الفخر والإعجاب والفضول لرؤيتهم والتمثل بهم , لقد أيقظ هؤلاء بواعث الانتماء للوطن والموت دونه لدى أجيال متعاقبة دون أن يشعروا ,لذا كانت كتب التاريخ عبارة عن حكاية من القطع الكبير اكتملت عناصرها الدرامية في ملحمة لا يمكن اجتزائها أو اختصارها . لقد تعمد أتباع الأمركة في عهد المخلوع الفاسد تشويه التاريخ وحذف بطولات صانعيه من الرموز الوطنيه لتفريغ الذاكرة المصرية من مضمونها وطمس الهوية لدى أجيال المستقبل والاكتفاء بأسطر قليلة عن هذا الزعيم أو ذاك ,كتاب التاريخ للصف السادس الابتدائي نموذج صارخ للتشويه والحذف حيث اقتصر المنهج على بعض الأحداث في أزمنة الاحتلال التركي ثم الحملة الفرنسية وانتهاءً ببعض الأحداث المسطحة لعصر محمد علي. التشويه لم يقتصر على كتب التاريخ فقط وإنما طالته بعض الألسنة الإعلامية إما عن جهل أو تجهيل مقصود لذاته فحينما يتحدث أحد الإعلاميين في برنامجه الذي يحمل إسم الثورتين عن الزعيم الوطني أحمد عرابي في محاولة لتشويهه نافياًعنه قولته الشهيرة في وجه الخديوي توفيق وهو يمتطي حصانه (لقد ولدتنا أمهاتنا أحراراً ولن نورث بعد اليوم)ويصف ما درسناه في كتب التاريخ وحفظناه عن ظهر قلب بأنه محض افتراء لاأساس له من الصحة وأن عرابي اختلق هذه الرواية بعد رجوعه من المنفى لاتهامه بتدبير المؤامرات مع الخديوي فاضطر لتلفيق هذه الرواية!! العجيب أن هذا الحديث يروى في ظل أساتذة عظام للتاريخ والتأريخ نعلم غيرتهم على ما درسوا ودّرسوا دون التصدي لهذا الهراء والأعجب أن صاحب الفتوى يروي معلوماته باعتبارها مسلمات لايأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها بثقة يحسد عليها. الرواية في حد ذاتها لاتعنينا لكن ما يلفت النظر ما وراء هذا التشويه ومحاولات التشكيك في الرموز الوطنية رغم احتياجنا لاستلهامها واستحضارها وتعظيم قيم البذل والفداء التي قدموها على طول التاريخ وعرضه لإيقاظ الروح الوطنية والانتماء لدى قطاع عريض من الشباب يفكر جدياً رغم حدوث ثورتين عظيمتين في الهرب والهجرة للخارج ومن ثم لم يبق لدينا سوى ما تركه الآباء والأجداد من إرث آن الأوان لتأمله وتدريسه في كافة المراحل التعليمية تفصيلاً,فالذاكرة المصرية الأن في أمس الحاجة لتأكيد الهوية لا لضربها والكثير ما زال يتلمس الطريق للعودة لحضن الوطن.