تبقي السينما متحف الذاكرة الحية للأمم وتبقى دوما ذاكرة للشعوب وتاريخا مرئيا .. تعكس وإن تواضعت سمات عصرها وفكره وأحداث زمنها ومشكلاته ، ولعلنا إن ذكرنا السينما المصرية وبداياتها يلتصق الأمر بفيلم " زينب " الذي أنتج عام 1930 للكاتب محمد حسين هيكل والذي شارك في كتابته وأخرجه محمد كريم ،وكان من بطولة بهيجة حافظ وسراج منير وزكي رستم ودولت أبيض عن قصة حب تصطدم بالعادات والتقاليد والطبقية ، بينما البداية الحقيقية وإن نسيت تراكميا مع الزمن تحفظها ذاكرة السينما .. حيث كانت البداية الأولى للسينما المصرية الروائية بفيلم " برسوم يبحث عن وظيفة " أول فيلم مصري روائي قصير صامت بل الأول على مستوى أفريقيا كلها ، والذي كتبه وأخرجه وصوره وأنتجه المخرج " محمد بيومي " الذي يعد في الحقيقة رائد السينما المصرية والإخراج في مصر ، هذا المصري الريفي ( 1894 – 1963) الذي عاد من النمسا بعد حصوله علي دبلوم في التصوير الضوئي والسينما توغرافي و معه معدات ومعمل تصوير سينمائي فأسس استديو في شارع الحلفا بشبرا باسم " آمون فيلم " ليكون أول ستديو سينمائي مصري ، فكان أول فيلم و ثائقي له عن عودة سعد زغلول من المنفي و استقباله في القاهرة في 18 سبتمبر 1923 ليكون في أول أعداد جريدة "أمون "السينمائية الصادرة عن استوديو آمون ، ليقدم في نفس العام 1923 أول فيلم روائي " برسوم يبحث عن وظيفة " حتى يؤسس بيومي بمجيء 1932 أول معهد سينمائي في مصر . " فيلم " برسوم يبحث عن وظيفة " بطولة بشارة واكيم وعادل حميد وشارك فيه فيكتوريا كوهين وعبدالحميد زكي ومحمد يوسف والسيد مصطفى وفردوس حسن ، وهو فيلم كوميدي اجتماعي قصير تدور أحداثه حول الترابط بين المسلمين والمسيحيين من خلال صديقين أحدهما مسلم ويدعى "الشيخ متولى" و الآخر مسيحي ويدعى "برسوم" كلاهما عاطل عن العمل يعانيان من الجوع .. يبحثان عن وظيفة فيتنافسان على إحدى الوظائف في أحد البنوك ، حيث يخطىء مديره بدعوتهم إلى غداء سخي بمنزله ظانا أنهما من رجال الأعمال الأغنياء، ليعلم الحقيقة ويطردهم من منزله .. لينتهي الفيلم بنومهما على أحد الأرصفة بتأثير الغداء الثقيل الذي تناولاه بشراهة بعد جوع ليراهما شرطي فيقبض عليهما ويقتادهما بينما لا يزالا يتطوحان لم يفيقا بعد . إن تناولنا الفيلم الذي استغرق 16 دقيقة بشيء من التحليل .. فهو بالطبع يجب أن ينظر إليه ويعامل بمقياس زمنه وحدود صنعته وهذه المشاهد المؤداة بطريقة كوميدية وإن كانت تبدو الآن ساذجة نوعا أو مبالغة الأداء إلا أنها أسست لمواقف كوميدية كالكلاشياهات بنيت عليها كثير من الأفلام الكوميدية التي تلتها ، كهذا القميص الممزق لبرسوم بحيث لا يبق منه سوى أساوره بينما يرتدي عليه معطف بدلته الوحيدة التي ينام بها على الأرض في بيته مع الشيخ متولي .. وهذه العبارة على حائط منزله التي يتغزل بها كما تبدو تعبيراته " فليحي الارتباط " ليذكرنا بمثل" الجوعان يحلم بسوق الخبز " ، وموقف اللص الذي يتسلل لمنزلهما فلا يجد شيئا يسرقه ليبدو عليه لعنة أصحاب البيت ثم لا يجد سوى رغيف خبز مخبأ فيأخذه ، ليتلقاه الشيخ متولي " بشارة واكيم " عند خروجه فيضربه ويؤدبه ويأخذ الرغيف بينما يستيقظ برسوم جائعا فيستميت في البحث عن الرغيف الوحيد فلا يجده بينما نرى الشيخ متولي يأكله بتلذذ ويشبع لتصل إلينا أيضا بشكل جانبي بساطة طلباتهما إزاء احتياجاتهما الأساسية ، وما يعكسه ذلك من واقع اجتماعي صعب للفقراء ، ولا يمر الفيلم إلا وقد عكس بشكل بسيط وإن كان عابرا الواقع السياسي الاجتماعي ومدى تأثر المخرج بالقضايا الوطنية والتأثر الاجتماعي حيث نرى في أحد أركان المنزل صورة للزعيم سعد زغلول معلقة على الحائط برغم هذا الفقر .. والتي تظهر أثناء بحث الشيخ متولي بتلهف عن وظيفة في كومة من الجرائد والتي كانت كبيرة الصفحات وقتها كما رأيناها ، لتتخلل الموسيقى التصويرية لهذا المشهد والتي كانت مستمرة طوال الفيلم .. جملة موسيقية لأغنية " بلادي بلادي "حيث تظهر في الخلفية صورة سعد زغلول الذي عاد من المنفى في ذلك العام فيبرز الموقف الوطني لبيومي الذي اشتهر بوطنيته ومواقفه ، ويستمر الهم الاجتماعي المقدم في قالب كوميدي والذي بدأ بتوطيد فكرة التآخي بين المسيحي والمسلم من خلال هذين الصديقين الذي رأينا أحدهما يصلي كمسيحي والآخر يرتدي زي الشيخ المسلم ، ليبرز النقد الاجتماعي للبطالة والفقر والطبقية والفجوة بين الفقراء والأغنياء من خلال تنافسهما الكوميدي على الوظيفة ثم مظاهر ثراء صاحب العمل واختلاف وسيلة المواصلات بينه وبينهما وثراء مائدته ثم طرده لهما حين تبين أنهما ليسا رجلا أعمال والذي ينتهي بمزيد من القهر بالقبض عليهما .. وإن ظلا يبتسمان . أظهر الفيلم بعضا من مظاهر الحياة في ذلك العصر من حيث الملابس والطرابيش واستخدام الحنطور كوسيلة مواصلات منتشرة لعموم الناس والسيارة " الأوتوموبيل " للأثرياء والحارس النوبي و شكل الجرائد وأسلوب الكتابة من خلال لوحات التتر واللوحات الإرشادية للتعليق التي كانت تتخلل الفيلم .. ولنتوقف معها لتأملها وتأمل معلوماتها |، فتتر البداية ليس أكثر من لوحتين متتابعتين سوداوان بخط اليد ، كتب في الأولى إسم الفيلم متبوعا بجملة " أول فكاهة سينماتوعرافية مصرية وضع وتصوير محمد بيومي " متبوعة بترجمتها الفرنسية كثقافة سائدة وقتها خاصة كلغة للفن ، لتأتي اللوحة الثانية مكتوب فيها شرح للقصة " بمطالعة الجرائد يستعين الشيخ متولي على مقاومة الجوع الذي لابد منه " حيث يبدأ الفيلم بالشيخ متولي يطالع جريدة ، لتأتي عدة لوحات تتخلل أحداث الفيلم مكتوبة بنفس الطريقة مثل " الجوع كافر " و " أين الرغيف " و" كرباج ورى ياسطى " بهذه الإملاء مع حروف أجنبية للكلمة " wara yasta " ، " بعد أكلة الظهر الطيبة يشعر الإنسان بالخمول " ، و " وبعد " ثم النهاية " انتهت " وكل ذلك بنفس الطريقة متبوعا بالترجمة الفرنسية وإمضاء " شريط أمون بالقاهرة " في كل لوحة من اللوحات التي كانت أغلبها لا يضيف شيئا كبيرا وإنما للتعليق .. جالبة معها بسمة تتنسم التاريخ . والفيلم على بساطته واللجوء المفهوم للمبالغة لبدائية التجربة وصمت الفيلم وبرغم عدم جودة التجربة بطبيعة الحال وخاصة في عدم القدرة على تبين الكثير من الأشياء لضعف جودة الصورة والإضاءة ، فقد بدت فيه سمات أسلوب بيومي السينمائي أو الفيلموغرافي حيث المصرية الخالصة والالتحام بالبيئة الاجتماعية ومشاكلها والحرص على الإشارة للأحداث الوطنية مما يبين انتفاء النظرة الفوقية أو السياحية لبيومي القادم من أوروبا ، ذلك المتأثر بالتعبيرية الألمانية والفواصل الكوميدية الساخرة لشابلن والسينما العالمية في ذلك الوقت .. والذي سكنه عشق السينما وعشق الوطن .