محمد عبد الغني الجمسي واحد من تسعة في تاريخ العسكرية المصرية حصلوا على رتبة المشير ,لكن اعتزازه بالرتبة الأدنى (الفريق) يفوق اعتزازه بالرتبة الأعلى,وهو واحد من صناع نصر حرب أكتوبر العظيم حيث كان رئيساً لهيئة عمليات الجيش المصري ثم رئيساً لأركان حرب القوات المسلحة الذي ألحق هزيمة نكراء بالعدو الصهيوني ويتم تصنيفه ضمن أبرع 50 قائداً في التاريخ العسكري. كنت ما أزال صحفية صغيرة حين هاتفت الجمسي لإجراء حوار جاءني صوته حاد قوي النبرة يسألني (عايزة تعملي حوار ليه) قلت لأنكم شخصية مهمة تحوي أسراراً عديدة آن الأوان لمعرفتها ,كان ذلك عام 1988 أى بعد 15 عاماً من انتصارات أكتوبر المجيدة واعتزال الجمسي الحياة العامة بعد إقالة السادات له وخروجه من الخدمه بطريقة مأساوية رغم تصريح السادات بتعيين الجمسي وزيراً للدفاع مدى الحياة ,لكنه لم يستصدر قراراً جمهورياً بهذا الشأن ثم استرسل (انت مجهزه أسئلة) قلت نعم ,قال اقرئيها وحين انتهيت قال بحزم (باين عليك صحفية شاطرة) واستكمل (انت عارفة إني لم أجر حواراً صحفياً منذ خرجت من الخدمة) قلت نعم، قال ستكونين أول صحفية تجري معي الحوار,أغلقت الهاتف وشعرت أن قامتي الصغيرة تطال السماء وكانت سعادتي بموافقته تفوق الخيال ,ثم إنني كسبت التحدي من زملائي الذين راهنوا على عدم موافقته وأنني لن أنال هذا الشرف العظيم. يوم السبت الساعة الحادية عشرة صباحاً الموافق 24 سبتمبر عام 1988 كنت ألملم أوراقي وشرائط الكاسيت وأنا أصطحب زميلي المصور الصحفي المبدع (محمد السهيتي) استعداداً للقاء بنادي هليوبولس ,بدأت الحوارعن كواليس الحرب وعما تردد عن مشاركة أمريكا ودعمها سراً للصهاينه أثناء المعركة ,كان الرجل يجيب عن كل ما سألت باسترسال ودون تحفظ وأحياناً يطلب إيقاف جهاز التسجيل ليحكي قصة ما معلقاً هذه ليست للنشر ثم بادر قائلاً سأعطيك معلومة لم تذع عن الحرب كي تحققي سبقاً صحفياً ,قلت الحوار في حد ذاته سبق صحفي واستكمل لا أحد يعرف أن العراق شاركت في أول طلعة جوية وأن المغرب أرسلت تجريدة عسكرية للمشاركة في الحرب مع مصر ثم تدارك (كفاية كدة أنا ازاى قلت الكلام ده كان فين عقلي انت كدة ح تحرقي مذكراتي) وسألته بإصرار عن قصة دموعه بعد المفاوضات التي أجراها مع كيسنجر في يناير 1974 فقال حرفياً: جلسنا لإجراء مناقشات جادة وسرية لمدة ساعتين ,موضوعات سياسية وأخرى عسكرية وفوجئت أن كيسنجر يبلغ الحاضرون ببنود الاتفاق الذي توصل إليه مع السادات حيث ذكر أنه وافق على تخفيض حجم القوات على الضفة الشرقية للقناة لتصبح 7000 رجل و30 دبابة وعدد محدود من المدفعية في هذه اللحظة شعرت بمدى التخفيض المتعمد الذي سيحدث في القوات فبعد أن كان لنا قوات جيشين يصل عدد رجالهما إلى عشرة أمثال هذا العدد,وكنا نقدر أن يكون لنا 300 دبابة وأعداد كبيره من المدفعية لتدعيم القوات في سيناء ,فكيف يتم الاتفاق على هذا النحو لذلك أبديت رفضي وقلت بحدة لكيسنجر تعطي لإسرائيل كل ما يضمن تأمين قواتها وتحرمنا من تأمين قواتنا فرد كيسنجر أنه يضع استراتيجية للسلام مستقبلاً,قلت لا أتحدث عن السلام بل أتحدث عن تأمين القوات وتركت غرفة الاجتماعات بعد أن اغرورقت عيناى بالدموع. كان الجمسي يحكي هذه الواقعة وهو مليئ بالحزن والأسى خاصةً أنه راجع السادات في هذه المباحثات طالباً مراجعة الفريق أول أحمد إسماعيل لتعديل المقترح لأن الوقت ما زال أمامنا لكنه رفض استدعاء الفريق أحمد اسماعيل وتمسك بالاتفاق والالتزام به لصالح الاستراتيجية السياسية الجاري وضعها مع أمريكا ولأنه رئيس لأركان حرب القوات المسلحة فقد كان يقدر حجم الجهد والتضحيات التي تحملتها القوات المسلحة المصرية ومن ثم ليس هناك ما يدعو لتقديم هذا التنازل الكبير الذي ترتب عليه تهديداً مباشراً لأمن القوات المسلحة ,ثم ازدادت المرارة حين تحدث عن أسلوب السادات في إبعاده عن منصبه يوم 5 أكتوبر 1978 في هذا اليوم كانت البروفات النهائية استكملت ووزعت بطاقات الدعوة بإسمه لجميع مسئولي الدولة لكن السادات استدعاه يوم الثلاثاء 3 أكتوبر باستراحة القناطر الخيرية إثر عودته من كامب ديفد حيث استبعده من مفاوضاتها رغم كونه وزيراً للحربية آنذاك,وأبلغه أن مصر ستدخل مرحلة جديدة في تاريخها وعلى هذا الأساس أجرى بعض التغييرات ,فقرر تغيير وزارة ممدوح سالم بوزارة الدكتور مصطفى خليل وتعيين الفريق كمال حسن علي خلفاً له وأبلغه أن حلف اليمين الدستورية تقرر يوم 5 أكتوبر,كانت هذه الذكرى تمثل إحساسا خاصاً للجمسي وللعسكريين عامة وحسبما ذكر في الحوار أن هذا الإجراء آلمه كثيراً لأن السادات لم يراع الناحية المعنوية لمحارب خدم القوات المسلحة 40 عاماً وكان يتمنى أن تحدث التغييرات إما قبل هذا الموعد بفتره وإما بعد الانتهاء من الاحتفالات. انتهت المقابلة التي كان يفترض ألا تزيد عن 45 دقيقة لكنها تجاوزت الساعتين ثم كان اللقاء الثاني في نفس المكان في شهر أكتوبر 2001 .يظل للقاءين أثرهما الخاص رغم مرور السنوات الطويلة فالجمسي شخصية أثيرة تجمع مابين صرامة العسكريين وانضباطهم وتخفي خلفها بساطة العظماء وتواضع المرهفين فهو واحد من القلائل الذين جمعوا ما بين المواقف الوطنية والكفاءة القتالية التي تميزت بها المدرسة العسكرية المصرية . رحم الله الجمسي الذي تحل ذكرى ميلاده في التاسع من الشهر الجاري من العام والذي رحل عن دنيانا فى السابع من يونيو 2003 تاركاً وراءه سجلاً حافلاً من المواقف والبطولات.