حاول بعض الأصدقاء أن يجيبوا على السؤال الوجودي الملحّ "لماذا لا يموت أولاد المتسخة؟"، فاجتهدوا في ذلك قائلين بأن أفضل من فينا يموتون قبل أن يتعرضوا للفتن الضارية فيسقطوا بين براثنها. رحل الدكتور عبد الوهاب المسيري قبل الثورة، وهو المفكر الذي ختم حياته بنضال ميداني دفع ثمنه اعتقالاً في ظروف غير آدمية رغم إصابته بالسرطان، فقال محبّوه لعل الله قد رحمه من ابتلاء المحن التي تلت الثورة ولعله كان سيخسر الإجماع حول شخصه ونبل مواقفه تحت وطأة الاستقطاب السياسي والاجتماعي. قاسوا على ذلك أمثلة عديدة من كتاب ومشاهير إما سقطوا سقطات مروعة، وإما خسروا مصداقيتهم أو جانباً منها أو قطاعاً عريضاً من جمهورهم. لكن تلك المحاولة للإجابة لا تصمد أمام دلالات مشهد جنازة المحامي الحقوقي النبيل أحمد سيف الإسلام عبد الفتاح قبل يومين… رحل عم أحمد سيف مقهوراً على ابنه علاء المحبوس ظلماً وغدراً، وعلى ابنته سناء المحبوسة لمطالبتها بالإفراج عن أخيها، وشيّعه آلاف المحبين من الأطياف الوطنية كافة، في مشهد كنا نظن أنه لن يتكرر بعد ما فعل بنا الاستقطاب السياسي ما فعل. كان مشهداً مهيباً، ينتمي لمشهد التنوع في الثمانية عشر يوماً الأولى في ميادين وشوارع التحرير في أنحاء مصر. احتشد الآلاف في جامع صلاح الدين بالمنيل لصلاة الجنازة، ثم زحفنا إلى مقابر التونسي في السيدة عائشة لوداع الجثمان، حشوداً من الرجال والنساء، من الشيوخ والشباب، من المسلمين وغير المسلمين، من اليسار وغير اليسار، من الحقوقيين وغير الحقوقيين، من الأصحاء والمرضى، من الموسرين والبسطاء، كلهم قد اجتمعوا على حب ذلك الرجل والوفاء لتاريخه النضالي الطويل، المشرف والنبيل. اليوم فقط ننتبه أن واحداً من أفضل من فينا كان بيننا طيلة السنوات الماضية .. ماذا لو عاد إلينا عم أحمد سيف بوافر الصحة والعافية شهراً واحداً نعلم أنه سيفارقنا بعده؟ كم منا سيكون حريصاً على زيارته والحديث معه والاستماع إليه؟ كم صورة كنا سنلتقط معه؟ وكم تسجيلاً صوتياً ومرئياً كنا سنحتفظ به؟ لكن، وللأسف الشديد، فإن الراحلين من عالمنا لا يعودون إليه، فلن نستطيع أن نفعل شيئاً من ذلك .. في رحيل الأستاذ أحمد سيف الإسلام رسائل كثيرة من خالق الموت والحياة؛ فهي تذكرة أن بيننا عظماء كثيرين لا نلتفت إليهم إلا بفزعنا من مصابنا فيهم، وهي دعوة لأن نحتفي بمن نخشى رحيلهم عساهم يسعدون بصحبة طيبة في أيامهم الأخيرة. قد يدفعنا الإنكار إلى التهرب من مواجهة حقيقة الأمر بأن فلاناً وعلانة على وشك الرحيل، فلا نريد أن نصدق أننا سنزور فلاناً اليوم قبل ألا نستطيع أن نفعلها لاحقاً، ويحدونا الأمل بأن تبقى فلانة متاحة إلى الأبد، لكن الأماني الكاذبة لن تعطل الأقدار! قبل ثلاثة أسابيع، رحلت عن عالمنا الحاجة فرحانة، شيخة مجاهدات سيناء، التي تشهد لها سجلات المخابرات الحربية المصرية ببطولاتها الفريدة ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي عملياتياً ومعلوماتياً. وفي الأسبوع ذاته الذي رحل فيه عم أحمد سيف، شاهدت الجزء الثاني من فيلم "عن يهود مصر"، وهو فيلم وثائقي في غاية الأهمية يسجل هذا التاريخ وذاك التراث المهدديْن بالضياع تحت وطأة الجهل بتاريخ مصر الحديث، وتحت نير الخلط الآثم بين الديانة اليهودية والأيديولوجية الصهيونية. لم يدر بخلد صانع الفيلم أن الأخت الصغرى لرئيسة الطائفة اليهودية المصرية ستموت بعد التصوير بأسبوعين، فتفقد الطائفة الصغيرة واحدة من أصغر العضوات التي يتراوح متوسط أعمارهن بين السبعين والثمانين سنة، والتي كان يمكن أن يكون لها دور في حفظ ما تبقى من تراث الطائفة. هذا هو الجانب الأسوأ من الحقيقة، أن الموت يلاحق أهم الشخصيات في مجتمعنا فإن لم نستطع أن نوقف عجلته فعلينا أن نسابقه كي ندرك اللحظات الأخيرة مع من سيؤلمنا رحيلهم. فيبدو أن أفضل من فينا يرحلون أسرع وأكثر من "أولاد المتسخة" الكابسين على أنفاسنا. ولذلك، نؤمن بالحياة الآخرة والحساب والجنة والنار، وهو الجانب الأفضل من الحقيقة.