لا يشعر الخرتيت بما حوله . الحيوان ضعيف البصر ذو القرن الواحد والجلد السميك تختلط عليه الأمور دائما . الأحمق تنتابه حالات هياج من حين لآخر. وكان الكاتب الروماني الأصل الفرنسي اللغة “يوجين يونسكو ” مبدعا عندما كتب مسرحيته ” الخرتيت ” عن مجتمع من فاقدي الحس والذوق والعقل والشعور . تتحول فيه خلق البشر الى ملامح خرتيتية . و المسرحية اشتهرت منذ كتابتها في مطلع الستينيات من القرن الماضي ، وجرى ترجمتها الى العربية لاحقا. وجاء مبدع آخر .و هذه المرة ليس من أوروبا . لكن من أمريكا اللاتينية في عقد السبعينيات بدكتاتورياته العسكرية البغيضة ليعالج ” الخراتيت ” . لا أتذكر اسم الكاتب المخرج المسرحي المبدع أو بلده بالتحديد . لكن ما أذكره جيدا أن الرجل أكسب مسرحية ” يونسكو” طعما لاتينيا خاصا . وأضاف إليها معان لم تكن واردة عند قراءة النص الأصلي الذي يشخص حال الأوربيين الخارجين من وطأة فاشيات الثلاثينيات والأربيعنيات . في المسرحية اللاتينية مجلس من الجنرالات يخطف السلطة بعد ثورة شعبية أطاحت بطاغية . و يعد الجنرالات الشعب بالديموقراطية والكرامة والعدالة و بإنتخابات نزيهة . لكنهم يحكمون بذات الأساليب المستبدة الفاسدة . ولم يسمح ” خراتيت” الإعلام والصحافة بطرح التساؤلات المشروعة عن دور الجنرالات وماضيهم في عهد الطاغية المخلوع و عن ثراوتهم وعمولات شراء وتجارة السلاح . ولم يسمحوا بإتاحة المعلومات عن دور الخرتيت الأكبر خادم سيده الطاغية في بيع ونهب القطاع العام وترأس لجنة الخصخصة . بل وصل التضليل الى حد الكذب بأنه كان ضد بيع المصانع والشركات .والحقيقة أن البلد تسوده صحافة وتليفزيون وإذاعة وأحزاب يقودها ” خراتيت “ .أما ثقافة ” الخرتتة ” فتكفلت بإطلاق سحب دخان كثيف للتغطية على إستمرار قيم الولاء والطاعة والنفاق لكل السفاحين واللصوص . وعندما كان يظهر صوت نشاز بين جوقة “الخراتيت ” العميان كانوا يسرعون الى شرائه أو إسكاته بالقوة والكذب و الإتهامات الملفقة التافهة . حتى أن الثوار أصبحوا ” ثورة مضادة ” يعرقلون المسيرة ويهددون الإستقرار .أما قتلة ولصوص النظام المستبد الفاسد فقفزوا الى مواقع الصدارة في كل مجال مرتدين مسوح الثوار. ذروة الخرتتة جاءت عندما انتفض الثوار من جديد بعد مذبحة تلو مذبحة ،فظهر ” الخرتيت” الأكبر بزيه العسكري . يلوك كلاما فارغا كأنه تحت تأثير مخدر قوي . يعد بإنتخابات يعلم الجميع أنها فاسدة مزورة وغير ممكنة. ويطلب مهلة أخرى ليستمر الجنرالات قابضين على مصائر السلطة والثروة وعلى إغلاق ملفات الفساد الكبرى. وبلغة “خرتيتية ” تتجاهل القتلى والجرحى و الآلام والمظالم ، قال قصير النظر متناوما:” نعمل إستفتاء على بقائينا في الحكم ” . شئ واحد كان يلمع في مشهد الخرتيت الأكبر العجوز وهو يتحدث مثيرا موجات من التثاؤب . فقط فوق وجهه الخرتيتي المعتم أطل بروز من الخلفية بلون الذهب عليه كلمة واحدة هي :” الأعلى “. كارم يحيى صحفي بالأهرام في 23 نوفمبر 2011