بغير حدود أنفر من الطغيان والطغاة العرب , فليس متصورا أن أعجب بأحدهم , ولكن موقفي من مبارك لم يقتصر علي النفور وإنما تجاوز ذلك إلي مشاعر عميقة بالاشمئزاز . كان صدام حسين – رحمه الله – طاغية عربيا بامتياز وكان ذكر اسمه مجردا يخلف الهلع في قلوب اخوتنا أهل العراق , وكان لولديه من الذكر السيئ ما كان , كان عدي وقصي هما علاء وجمال مبارك العراق وان اختلفت السيرة في التفاصيل . وكان معمر القذافي طاغية من طراز فريد , فالرجل متأله لا ينظر الي وجوه جلسائه وإنما يحلق في السماء ربما استلهاما لوحي موهوم في خيال مريض , وقد عاد الرجل بليبيا خمسين عاما الي الوراء وأزهق أرواح خمسين ألف ليبي حتى لا يترك كرسي الحكم . وكما اعتبر مبارك وحاشيته مصر عزبة ورثوها عن الأجداد فهي مباحة أو مستباحة لهم فان نفس المنطق ساد في العراق وبصورة أنكي في ليبيا. لست أجادل اذن في أن الحكام الثلاثة قدموا نموذجا بالغ السوء في حكم بلادهم , ولكن هناك عامل أوجعني وجعا أليما كمصري والقي في نفسي شعورا بالعار أن شخصا مثل مبارك حكم بلدي ثلاثين عاما وهو المنهج الإنساني بالغ الجبن الذي يواجه به محنة صنعها بيديه . عندما القي القبض علي صدام حسين واجه مصيره بشجاعة فائقة تثير الاحترام أيا ما كان تاريخه من الطغيان , وقد شعرت – كعربي – بالفخر لشجاعته وهو يحاكم قضاته ويقف في القفص لا أسيرا ذليلا وانما أسدا هصورا يزأر ويهدد ويتوعد ويرد صاع الإهانة صاعين لكل من مس كبريائه , وقد كان القضاة في الحقيقة مرتعدين منه يحاولون أن يخفوا ذلك , كانوا يقفون أمام الأسد الهصور ويعرفون أنهم يحتمون وراء الأسوار التي يقف خلفها ذلك الأسد , وعندما سيق إلى الاعدام تصرف كأحد أبطال الأساطير , ولا أشك لحظة واحدة أن جانب الشجاعة عند المرحوم صدام حسين سوف يصبح يوما مادة خصبة للحكايات الشعبية علي نهج سيف ابن ذي يزن وأبي زيد الهلالي , فقد تقدم الرجل الي حبل المشنقه ثابت الجنان رابط الجأش قويا لا يبالي الموت ولا سباب جلاديه , وقد سمعت صوتا أظنه صوته يرد علي من يسبونه قائلا ( أهذه هي مراجلكم ؟ ) باعتبار أن الوعاء ينضح بما فيه , ولو طلب الي ممثل أن يقوم بأداء المشهد ويندمج في الدور لربما خارت قواه من معايشة هول لحظة يخر عندها الجبابرة منهارين ! ومات قصي وعدي في إطلاق نار متبادل وأبديا شجاعة نالت إعجاب الجميع حتى ألد أعداء صدام حسين وعائلته , وقد سمعت بعض خصوم الرجل يترحمون عليه وعلي ولديه ويبدون إعجابهم بشجاعتهم وأنهم أيا ما كان ما نسب إليهم فقد ماتوا موتة تليق برجال واقفين مستقبلين الموت بصدورهم ! عفا الله عنهم وغفر لهم . ولقد شاهدت وسمعت لقطات من حوار مصور بين المعتصم ابن القذافي ومن القوا القبض عليه , كان أحدهم يشير ساخرا إلي جروح ودماء علي جسد المتعصم بينما يرد الأخير أنها أوسمه ونياشين , وبرغم أني أشارك ملايين الناس موقفهم تجاه القذافي وأولاده وبرغم أن جرائم القذافي تحصيها مجلدات هو وعائلته الا أن شجاعة المعتصم وهو في يد الثوار أعادت الي الأذهان صورة صدام حسين وولديه , صورة أسد يساق الي الموت رافعا رأسه حتي أنه لما أثقل عليه من وقع أسيرا بأيديهم في السخرية راح يصفهم بأنه صغار وهو يعلم يقينا أنه علي بعد خطوات قليلة من الموت ! ان الشجاعة في ذاتها قيمة عظيمة وقد دأب الأعداء المتحاربون علي مر العصور علي ابداء نوع من التكريم للخصم المهزوم يكافئ شجاعته , ولعلنا نذكر ان القائد الانجليزي الجنرال أكسهام في معركة الاسماعيلية بين قوات الأمن المصرية والقوات الانجليزية عام اثنين وخمسين وتسعمائة والف قد أبدي أعجابا عظيما بشجاعة الجنود المصريين وأمر بأن ثقف فصيلة من الجنود الانجليز في طريق الجنود المصريين لتؤدي لهم التحية العسكرية إجلالا لشجاعتهم رغم أن هذه الشجاعة كلفت انجلترا دم بعض أبنائها ! اختار حسني مبارك نهجا سياسيا نابعا من أعماق طبيعته الإنسانية متسقا معها , كان الرجل وهو في سدة الحكم يواجه الخطر الداخلي بالبطش وهو سلوك جبان , ويواجه الخطر الخارجي الذي لا يملك ازاءه بطشا بالانحناء الكامل حتي الانسحاق لدرجة إن الإدارة الأمريكية عبرت ذات يوم عن الخجل من تنفل مبارك في كل مرة بأكثر مما يطلب منه , وحتي أن الصهاينة اعتبروه كنزهم الاستراتيجي والشخصية الثانية الأهم في تاريخ الدولة الصهيونية كما جاء علي السنة مسئوليها , وهو بدوره سلوك ينبيء عن جبن شديد ! كان اللافت أن مبارك يختار مساعديه علي قاعدة ( الجبن سيد الأخلاق ) حتي أن أحد وزرائه تعرض يوما لموقف تصرف فيه علي نحو عجيب , كانت امرأة مبارك في مؤتمر وهمت باجتياز ممر ضيق بين صفوف الحضور وتصادف أن أحد الوزراء كان يقف في الممر وأسقط في يد معالي الوزير وتجمد مكانه , كان مرتعبا من المضي بحيث يعطيها ظهره وهو ما ربما أطاح به من الوزارة اذ كيف يعطي السيدة الأولي ظهره ,وكان مرتعبا من الوقوف بينما من المحتمل أن تمر هي من نفس الممر فيبدو كأنه ضيق عليها طريقها وظل واقفا ذاهلا نصف فاقد وعيه الي أن منت عليه العناية الإلهية بمن سحبه من يده فمضي وهو يتنفس الصعداء لانفراج المحنة ! عندما سيق مبارك الي المحاكمة كانت اللحظة مواتية لاستنفار طاقته وإخراج ألصق خصاله به وهي خصلة الجبن , ويبدو أن لمبارك غرام قديم بفن التمثيل فقد كان يقف في فيلم مصري قديم في الخلفية وظلت اللقطات تعرض ضمن الفيلم حتي وهو نائب للرئيس , وفي اللحظة الحاسمة تحرك الجبن واستدعيت هواية التمثيل أو بالأحرى حسب التعبير المصري الدارج ( السلبطة ) فنام علي سرير بينما هو قادر علي الوقوف , وكان أكثر ما يؤلمني شخصيا – كفلاح ابن فلاحين – وصف البعض تصرفه بأنه من قبيل ( لؤم الفلاحين ) في إشارة الي خلفيته القروية , وأن الهدف هو استدرار عطف المصريين , ولكن من نكد حظه فان تصرفه أثار عليه غضب الناس ومع الغضب شعور عميق بالغثيان ! وقف صدام حسين وقفة زعيم قوي يتصرف حتي وهو مكبل بالأغلال كقائد , بينما تصرف مبارك تصرف متهم مسجل (شقي خطر ) ركز كل همه في طلب الرأفة وهو مشهد ذكرني بقضية شروع في قتل وسرقة توليت يوما التحقيق فيها , وانتقلت الي المستشفي لأجد الجاني ممددا علي سرير مواجه لسرير المجني عليه , فلما شرعت في سؤال المجني عليه بعد أن قرر الطبيب المعالج أن حالته تسمح بسؤاله , راح يجيب رغم اصابته بطلق ناري في ساقه , وما أن بدأت في سؤال المتهم -وكان بادي الصحة -حتي راح يقدم مشهدا تمثيليا متدنيا تأليفا وأداء واخراجا فقد كان يتعمد الدخول في نوبات سعال مفتعل ويجيب بصوت يتصنع الوهن ثم يتظاهر بالاغماء رغم تأكيد الطبيب أنه سليم معافي وأنه التهم منذ نصف ساعة فقط طعاما يكفي أربعة رجال ! تمنيت لو وقف مبارك ودافع عن نفسه وعن سياساته بدلا من الرقود والنظر بنصف عين هنا وهناك ثم التظاهر بالعجز والمرض وهي مشاهد أخزتني وأخزت غيري من المصريين خزيا عظيما فقد تتعزي شعوب أنها تعرضت للظلم علي يد غضنفر مهيب فكيف بنا ومن ظلمنا وسامنا الخسف بكل هذا الضعف والهوان !