من الشاعر؟ من غير مقدمات.. أعتقد إن قصيدة الشاعر، هي اللي بتوضح تصوراته عن الشعر والكتابة، وبتوضح هل عنده مفهوم خاص للشعر -كما هو مفترض في كل شاعر- ولا مجرد شخص عنده رغبة في إنه يكتب "كلمتين حلوين" زي القصايد اللي قراها وعجبته. القصيدة بتوضح شكل الأسئلة اللي بتشغله، وبتجاوب على أسئلة مهمة زي: هل تصورات هذا الشاعر للعالم ضيقة ولا واسعة، وهل قرايته للعالم وللناس والواقع والتاريخ والأساطير ولنفسه، سطحية ولا متفرسة وكاشفة. موضوع «قرايته للعالم» مش كلام كبير وغير واقعي، بالعكس هنلاقي عند عبدالرحمن الأبنوي، «حراجي القط» كان عنده قراية وأسئلة خاصة للعالم، و«أحمد سماعين» كذلك، صلاح جاهين لما قال «القمح مش زي الدهب القمح زي الفلاحين» كان عنده موقف من موروث ثقافي ضخم، كون إن ده طلع لحضرتك بشكل بسيط، ده لا يعني إطلاقًا إنه كتب ببساطة، «البساطة» مرهقة للشاعر، وتختلف كتير عن «السطحية». هكذا.. القصيدة بتوضحلنا الشاعر شارب ثقافته، وقادر يتفاعل مع المعرفة اللي بيكتسبها ولا لأ، طبعا ده مالوش علاقة باستعراض المعرفة في القصيدة، ده شيء بيكون تلقائي «كل إناء ينضح بما فيه»، لذلك القصيدة برضه بتوضح هل الشاعر عنده قدرة على التخييِل ولا الخيال نفسه مضطرب- التخييل غير التخيل، الأنسان في العموم كائن يقدر يتخيل، التخييِل هو إنك تحفز خيال غيرك وتخليه منتج- ولا هو مجرد بيعيد ضخ مفردات المعرفة من غير ما يكون ناقشها مع نفسه وتفاعل معاها وهضمها كويس. وبمناسبة الهضم، القصيدة برده بتفضح الشاعر إذا كان هاضم لموروثه ولا متطفل على الموروث ده، القصيدة برده اللي بتقول، هل الشاعر ده مهموم إنه يعرف هو في فين وفأي منطقة من طريق طويل مشيه الشعر والشعرا لحد دلوقتي، وبيحاول يكون له بصمة، ولا مش مهتم ومش عارف إيه الطريق ده أصلا، وبيستنسخ قصيدة واحدة لشاعر كبير وبيبتذلها وينوع على الابتذال ده. وبالنسبة للناس اللي شايفة إن الشعر أبسط من كده، أحب أقولهم الكلام ده أبسط كتير من الشعر، بالنسبة للي بيعتبر الشعر معيار للحكم على ثقافة شعوب والجماعات الإنسانية، ووعاء للقيمة وناقد لكل القيم، لأنه بيتعرض للمنطقة اللي بيتصب فيها القيمة وهي اللغة في مستوياتها الشفاهية والكتابية، وده مش حكر على الشعر دون الفنون الأدبية الأخرى، وده موضوع لوحده. أما بالنسبة لناس تانية هاحكي موقف لنموذج منهم، صديقة ليا شافت كلام على الفيس بوك لكاتب هي شايفاه مهم وبتحترمه، بيمتدح في شاعر هي شايفاه إنه ضعيف جدًا، راحت سألته: أنت شايف الكلمتين اللي هو بيكتبهم دول شعر؟ قالها طبعًا وهايبقى شاعر هايل وبراهن عليه، ردت وقالتله إيه اللي يخلي اللي بيكتبه ده يبقى اسمه شعر، قالها بثقة "الشعر مالوش كتالوج".. أحب أقولهم: بالفعل الشعر مالوش تعريف محدد، لكن الشعر ككجنس أدبي له سمات طبيعة اتشكلت ولسه بتتشكل بتجارب الشعوب في النوع ده من الأدب والفن، وطبيعي إنه يبقى فيه تنوع سمات داخل النوع الواحد، زي ما حضرتك كده لك سمات وشروط وجود بتقول إنك تنمتي لنوع الإنسان ومذكر أو مؤنث وغيرها كمان أمور غير مادية زي سلوكك، لو السمات دي اتغيرت بره النوع، يبقى أكيد هاتكون كائن تاني، لكن طبقا لنظرية الكتالوج دي، فممكن نعتبر الفيلم قصيدة شعر مش مجازًا لأ حقيقي، أو نعتبر القصة القصيرة أو الرواية أو غيرها من الأشكال الإبداعية.. شعر، وطبعا في قضية أدبية كبيرة عن تحديد النوع أو الجنس الأدبي وقضية تداخل الأنواع، بس كل ده لأنه فيه إقرار بشيء اسمه النوع.. وقد كتبت سابقًا: «الشعر» لايقف عند التساؤلات بوصفها موضوعًا كالفلسفة، بل الشعر هو أن يكون للسؤال روحًا وجسدا، وأن يكون السؤال شارعًا نمضي فيه إلى داخلنا المجهول وخارجنا الغريب في مراوغة ما بين الوضوح والغموض، نمضي إلى ما تولّده كلمة "العُتمة" فينا حين سماعها؛ نمضي متعثرين ومهرولين، قلقين إزاء ما تعلمناه، إزاء المعرفة.. إنه توقع المرآة في نهاية ذلك الشارع، والصدمة إذ نفاجئها في المنتصف، بينما نحن منشغلين بوصف أعمدة الإنارة، أو في كتابة رائحة من عبروا في أجسادنا تاركين أشيائهم مبعثرةً في الذاكرة.. كيف يمكن أن يقال "انتهى زمن الشعر"، لم يطرح هذا حين كانت للشعر تعاريف نهائية محددة وقوالب راسخة! إذن كيف يمكن أن ننتهي إلى قناعة كتلك، وقد أصبح الشعر فتيًا شرسًا، جموحًا غير قابل للترويض في قفص التعريف المحدد. إلا أن القصيدة/ جسد الشعر، تعطي تعريفها لمن لديه القدرة على التسمية والتعريف، لمن استطاع إلى ذلك سبيلا، لمن يخلق منطقا ما على غير مثال، أو بالأحرى من يبدع المثال متيقنا أنه يخصه وحده، وأن هناك أخرون يمكنهم التعريف، وليس هناك أدلّ على الشيء من سماته..