تمثل الأرقام مشكلة في حساب المكاسب والخسائر لأطراف المعادلة السياسية والاجتماعية في مصر، فهي تزكز النظر إلى الحراك الثوري المستمر في مصر منذ 25 كانون الثاني/يناير 2011 وحتى الآن على الأعداد والأرقام، وصار المليون وحدة الحساب، الذي على أساسه تحسب الإنجازات، وأضحى الخروج إلى الميادين والشوارع؛ حتى لو لم يتعد العشرات أو المئات مجرد أرقام، وغابت باقي المعايير، وبدا ما يجري معتمدا في تفسيره وفهمه على كم المواطنين الذين يخرجون للتظاهر، أو عدد الأصوات التي تدخل صناديق الاقتراع أو الاستفتاء، وكلما ارتفعت مهارات الحشد عد ذلك كافيا لوصف العمل بالثورية، واعتباره من إنجازات الثوار، وبدا الحشد والاحتجاج وكأنه مهارة وحيدة اكتسبتها أعداد من الشباب المصري طوال السنوات الثلاث الماضية، فاستمرت أسيرة مبارزات الحشد والحشد المضاد، وبعضهم أضاف إليها العنف الذي بدأ من محيط قصر الرئاسة المعروف بقصر الاتحادية وداخله منذ نوفمبر 2012. لا تنال القضايا الأخرى الاهتمام بنفس الدرجة، وبقيت الحركة اليومية رهينة جهود الحشد والتعبئة، وتراجعت الجهود الأخرى، خاصة تلك التي يمكن أن تكون لها علاقة بمجمع الأزمات الذي أوشك أن يشل الحياة المصرية في شتى مجالاتها، فالثائر يعنيه نجاحه أو فشله في الحشد والتظاهر، والانشغال بتصنيف الجماعات والفئات المكونة لهذا الحشد أو ذاك التظاهر. هل هي من الشباب أو النساء أو كبار السن، ولا يبدو معنيا إلا بوقت الحشد ولحظة التظاهر، وغير ذلك بدا أمرا ثانويا؛ لا يلفت الأنظار بالدرجة الكافية. ومنذ ما بعد الخروج الأول في كانون الثاني/يناير 2011، والذي استمر ثمانية عشر يوما، ووصل في ذررته إلى اثنين وعشرين مليون متظاهر في يوم واحد، وعد ذلك إعجازا بكل معنى الكلمة، وحدثا هو الأول من نوعه في العالم، ومنذ ذلك الوقت لم يتوقف الثوار عن المبارزة بالمليونيات وكسر ذلك الرقم، وكأنها مبارزات للأرقام القياسية، والعمل على كسر الرقم بالفعل في 30 حزيران/يونيو و26 تموز/يوليو 2013، حتى يومي 14 و15 الماضيين في الاستفتاء على مشروع الدستور الجديد؛ في هذين اليومين تجاوز المشاركون رقم العشرين مليونا. ومع تلك الأرقام وذلك الاستعداد والإقبال على المشاركة دائما ما تؤول الأمور إلى القوى القديمة، فلا تتحسن الأحوال بالشكل المرتجى. من هنا تعلق المواطن بنتيجة الاستفتاء لعلها تكون مختلفة عما سبقها وحافزا على الاستقرار، ودافعا إلى الاستعانة بالقوى الشبابية. والسؤال هو هل من الممكن أن تتحسن الأوضاع بعد الاستفتاء أو تستقيم؟ أم يبقى الحال معتمدا على القوى والآليات القديمة بعد كل جولة من تلك الجولات وعقب كل حشد من هذه الحشود؟ ومنذ تجربة استفتاء 19آذار/ مارس 2011، والمعروف لدى جماعات العنف المسلح ب'غزوة الصناديق'، منذ ذلك الوقت تزداد الأوضاع تعقيدا ولم تُضف على ما تحقق خلال فترة اعتصام الثمانية عشر يوما في ميدان التحرير شيئا ذا بال، وتلخصت في تحرر المواطن من الخوف، وتمسكه بحقه مهما كانت التكلفة، واستعداده للتضحية في سبيله، واستعادة ثقته في نفسه وفي قدرته على التحدي، وبدت الإنجازات معنوية أكثر منها مادية لتغيير الحقائق وموازين القوى على الأرض، وهذا أبقى القوى القديمة قابضة على السلطة والثروة والنفوذ، لا تتنازل عنها على أي مستوى، وما زال مستوى التغيير سطحيا يلمس القشور ولا يصل إلى الأعماق، واستمر ثالوث الاستبداد والفساد والتبعية البائد مؤثرا على سير الحياة اليومية للمصريين، ومع ذلك لم يتراجع الشعور بالتفاؤل لدى قطاعات عريضة من الشعب، وتشيع بينها ثقة في الغد الأفضل والمستقبل الأحسن. ومقابل إجادة حساب أرقام وأعداد الحشود والمشاركين في الاحتجاجات، تضعف القدرة على قراءة الرسائل التي يبعث بها الجمهور مع كل خروج، وبقي الشغل الشاغل ل'خبراء الحشود' هو كم من خرجوا، وما بين المبالغة والإنكار. وبين التأكيد والنفي تتوه الرسائل. ومن المفترض بعد إنقضاء ثلاث سنوات من عمر ثورة يناير الانتقال من دوامة الأرقام تأييدا أو إنكارا إلى التركيز على قراءة رسائل الجمهور المحتج حتى لو كانت أعداده بالعشرات وليست بالملايين، فالقواعد الديمقراطية والإنسانية تقول بأن احتجاج شخص واحد فضلا عن أنه حق كثيرا ما يكون كاشفا لوقائع تستوجب الاهتمام، فالشاكي حين يجأر بشكواه قد يكشف عما هو أكبر من مظلمته، التي تتجاوز شخصه إلى ما هو عام، ويلمس خلل الحكم والسياسة، ويلفت الأنظار إليه وإلى مخاطره. وإذا ما حاولنا قراءة الرسائل المستخلصة من خروج أكثر من عشرين مليون مواطن للإدلاء بصوته، فليس المهم التوقف أمام النسبة صغرت أم كبرت، على المرء اعتبارها عينة، وسوف تكون الأكبر في تاريخ قياس الرأي العام، وهذا بعيد عن المألوف، حيث من المعروف أن مراكز قياس الرأي العام تنتقي عيناتها من مئات أو آلاف معدودة، وتستخرج منها اتجاهات ومؤشرات ودلالات يمكن الاعتماد عليها في سبر أغوار الحياة من زواياها المختلفة والتنبؤ بتطوراتها، ورغم قلة أعداد عينات القياس فإن هامش الخطأ في نتائجه في حدود ثلاثة في المئة؛ زيادة أو نقصا، والقياس لا يقوم على التسليم الكامل أوالإنكار المطلق للحقائق. ونقرأ في تلك الرسائل ما يلي: أولا: الخروج المكثف للنساء، وقد مثل ظاهرة بدأت منذ 25 كانون الثاني/يناير 2011 ومستمرة حتى الآن، ويمكن القول أن النساء يملأن المشهد العام بصورة غير مسبوقة، وامتد تأثيرهن الكبير إلى شد الأبناء والأطفال رغم صغر سنهم وعدم بلوغهم السن القانونية التي تبيح لهم التصويت، وغالبا ما كان مشهد النساء مصحوبا بإقبال أُسري جماعي؛ بما لذلك من أثر بالغ في التنشئة والتعود على المشاركة والفعالية بعيدا عن السلبية التي شاعت. ثانيا: ظاهرة تحويل التصويت إلى مهرجان للفرح والبهجة رغم الظروف الصعبة وكم التهديدات التي سبقت يوم الاستفتاء لترويع المواطن ومنعه من المشاركة، ولعبت المرأة دورا أساسيا في صناعة هذا المناخ، وقد كان أثرا من آثار التحرر من الخوف الذي أحدثته الثورة عليهن، وقد قدرت مشاركة النساء بأكثر من 55′ وهي نسبة لم توجد بعد في أي بلد من البلدان، وتحدت النساء بذلك موقف الجماعات المتطرفة وفرق العنف المسلح، وكانت تحرض على التحرش بهن والدعوة لمنعهن من الخروج أو المشاركة، وفتحت المرأة الباب مجددا لإعادة التوازن إلى الروح العامة الميالة إلى البهجة والتسامح. ثالثا: ظاهرة إحياء البهجة والسخرية في يوم الاستفتاء كسلاح كان فعالا إبان مراحل المقاومة والمواجهة في فترات الأزمات وفي التنفيس عن الضيق القابض على الصدور، والملفت للنظر أن من قاموا بالغناء والرقص عند لجان التصويت من شرائح الطبقة الوسطى، ومن سيدات وبنات الأحياء الشعبية، وهن اللاتي مكّن الجماعات الطائفية والسلفية، وكانوا من أكبر الكتل التصويتية التي أوصلتها إلى الحكم، وقد يكون ذلك تصحيحا لموقفهن وتغيرا قد طرأ على المزاج العام المصري. رابعا: ظاهرة ضعف فعالية العناصر الشابية، وكانت مؤثرة في حشد وتحريك جموع كانون الثاني/يناير 2011، وبعضهم لعب دورا سلبيا ودعا لمقاطعة الاستفتاء، وهذا زاد من اتساع دائرة التشكيك فيها، ويعود جانب من الأسباب إلى تسريب تسجيلات عن علاقة بعضهم بمنظمات تمويل أجنبية، وهذا استغلته فلول حكم مبارك للطعن في ثورة يناير ونعتها ب'الموامرة الأمريكية الصهيونية'، وعلى المرء أن يتحوط من التعميم، ويحرص على عدم الإدانة خارج القانون أو بأثر رجعي، والتدقيق فيما ينشر أو يقال، فالثورات غالبا ما تفتح صفحات جديدة لا يجوز فيها محاسبة الفرد على سلوك كان طبيعيا ومشروعا في ظل دولة الاستبداد والفساد والتبعية التي كانت قائمة قبل 25 كانون الثاني/يناير 2011، ويجب أن يبدأ الحساب من لحظة الثورة؛ شرط الالتزام بمبادئها وقيمها الجديدة، ما لم يكن جزءا من منظومة الفساد السياسي التي قام عليها النظام الأسبق. خامسا: ظاهرة إقبال كبار السن في التصويت على الاستفتاء، وكانت ظاهرة ملفتة للنظر ورسالة واضحة لعلاج الجفوة المصطنعة بين الأجيال، بجانب أنها تؤكد إصرار كبار السن والكهول على أنهم شركاء في الثورة وصناعتها، وأن إعلان الوفاء للثورة لا يعني صدامهم ضد الدولة، وهي تواجه خطرا غير مسبوق، وهم بذلك يؤكدون رفض دعوات تقويض الدولة وإسقاطها، وأن كانوا مع تطهيرها وإعادة تأهيلها، وفي ذلك إعلان واضح عن دعم الشرطة والقوات المسلحة والقضاء والأزهر والكنيسة، فالدولة خط أحمر في مواجهة الخطر حتى لو لم تتطور ديمقراطيا بعد. وقامت على ذلك ثقافة الانتماء إلى الدولة في مصر، وهذا ما لا يفهمه العاملون على هدمها وتفكيكها، حيث الصراع الضاري هو بين قوى تبذل قصارى جهدها لتفكيك الدولة وأخرى تعمل ما في وسعها للحفاظ عليها ومنعها من الانهيار والتقسيم. وبوحي الآثار التي ترتبت على الهجمات الإرهابية يومي الخميس على كمين للشرطة في محافظة بني سويف في شمال الصعيد، وعلى مبنى مديرية أمن القاهرة وعلى نقطة شرطة منطقة الأهرامات بالجيزة الجمعة (أمس) أستشهد بتصريح لياسر برهامي نائب رئيس الجبهة السلفية لصحيفة ‘الصباح' الأسبوعية الاثنين الماضي يقول فيه: ‘لكننا فضلنا الوقوف إلى جانب استقرار الوطن، فمواقفنا تنبع من مبادئنا ونحن نؤيد أي مبادرة للإصلاح لمنع تدمير الدولة أو تقسيم الجيش أو تدويل الأزمة الداخلية ونرفض تماماً أي تدخل خارجي في الأزمة السياسية الداخلية'. مع شهادة آخرى لمختار نوح المحامي الإسلامي نشرتها جريدة ‘الوطن' المصرية الأربعاء الماضي جاء فيها: ‘وبين رفض الذين ملأوا حياتنا بالشعارات ثم ها هم يملأونها بالرعب، فرفَض الناس أن يحشدهم أحد فحشدوا هم أنفسهم وجاءوا من كل فج عميق، ومن هنا فإن على إدارة الإخوان المسلمين أن تراجع نفسها، وعلى إدارة حزب النور أيضاً أن تراجع علاقتها بالجماهير، وشهادتهما هي شهادة ‘آل بيت' لا يمكن أن تكون مجروحة!!.