لأنه ينسى دائما فهو ينسى أن يترك ولو لمرة واحدة دليل براءته وطيبته ، وحسن ظنه وسرعة نسيانه .. إنه الشعب المصري ، الذى يحمل بين يديه براهين ، وأدلة الدنيا منذ نشأة البشرية ليعلن للعالم أنه مختلف و .. مختلف . فلو كان الشعب الودود على غير ذلك ، فأي شىء ترى هو ما أدخل السرور والرضا على قلبه المكلوم فيما يخص محاكمة الرئيس المخلوع مبارك ، فهل فيما حدث ، وما سيحدث ما يدعو إلى الفرح والطمأنينة ؟! .. مبارك الذى أسعد الملايين بدخوله القفص ، جعلنا أيضا لا ننسى نحن الخياليين أو المتشائمين أن جعبة حكوماتنا لا تنتهى أو تنضب منها الحيل وأن خشبة المسرح الحكومى ربما تكون مجبورة الآن على تقديم عرض يطلبه الجمهور بإلحاح ، وبالطبع فإن ذكاءها لن يمنعها من أن تجعل طفلها المدلل ، ولو إلى حين الجمهور تلتهب يداه تصفيقا وتصفيرا وخاصة إذا ما كان ذلك لن يؤرقها أو يكلفها كثيرا ، فقط حبكة درامية محزنة فى المشهد الأخير المطلوب مسبقا ، وتغيير بسيط فى أجواء وديكورات المكان ليناسب لحظات الختام ، فيرفع الستار ونرى القفص الحديدى قد استحال إلى جدران ، وقد جرت العادة أن تكون الجدران بلا ثقوب وجبل الإنسان ولا سيما العربى المصرى على عدم القدرة على الرؤية من خلف الجدران ... والحقيقة أن دخول مبارك القفص كمتهم لا يتحدث إلا إذا طلب منه أمر ليس بالهين ونأمل أن يترسخ ذلك كبدعة حسنة يعمل بها فى أرجاء الوطن العربى الذى شوهت وجهه أقدام وأرجل السلاطين والعروش ، ولكن الأهم من المحاكمة وسماع جملة الختام التى ربما تصاغ الآن بإحكام لتنهى العرض وتريح القلوب وتفض الزحام .. الأهم من ذلك كله أن يتذكر سريع النسيان ويستمع إلى صوت العقل الذى يصرخ فى وهن : وماذا بعد ؟! . أهناك ما سيضمن لنا فيما بعد أن تلك المسرحية لم تكن هزلية وساخرة .. أهناك شىء سيريح عقولنا لاحقا ، ويثبت أن الأحداث التى أسعدت الحشود الهائلة كانت حقيقية ولم تكن مجرد استخفاف متكلف يغلفه الجد .. أهناك سبيل لذلك فى الأيام القادمة ؟!... وكى لا نتهم بالعبثية وادعاء المعرفة الزائدة ونشر التشاؤم والتشكيك ، علينا فقط أن نسمح لذاكرتنا بالتدخل ولنتأمل المشاهد التى ترسم ملامح النهاية ، وعندها سنفاجأ بالعقل يشير إلينا ساخطا ، رافضا التصديق لمجرد أننا نريد التصديق لأننا ما كنا نحلم بأمر كهذا ، والآن والمشاهد تتوالى فى بطء ، فأية حقيقة نود الوصول إليها ونحن نهدر الملايين فى تجهيزات قاعة المحاكمة كما لو كانت تعد لأول إنسان سيدخلها .. وأين الصدق فى مرض مبارك الذى كشف خطة المحامى بتركه السرير فى أوقات الراحة ، ثم ألم يكن مخيفا ومقززا أن يطالعنا العادلى بهدوئه وابتسامته كما لو كان ممثلا فاشلا لا يعرف كيف يؤدى دور رجل حزين محبط لا يعلم الغيب ، وهو نفس الرجل الذى التهمت يديه بعض الضباط تقبيلا ، أكانوا لا يعلمون الغيب أيضا ... وبم سنجيب العقل حين يسألنا عن سر عدم السماح لكثير من محامى الشهداء بخوض معركتهم .. أستنطلى عليه حجة الأوراق والتصاريح والأختام ... ماذا إن هتف العقل قائلا : سأريحكم وأستريح ، إن مبارك الآن فى حالة من الغضب الشديد لأنه سيضطر إلى أن يحيا فى مكان ربما لن نعرفه أبدا وربما يعيش فيه منذ زمن أحد خدامه وهو عزت حنفى ، الرجل الذى دمرت سجون مصر كلها ولم يعثر له على اثر ، ثم إنكم لو تثقون فى عدالة القضاء لما كان هناك دفاعات فى قضايا إجرامية من الدرجة الأولى لا يختلف عليها اثنان ... عندها .. أيجوز لنا الصمت ، أم الكلام ؟! ... إن المعيار الحقيقى للصدق والعدالة الطبيعية ليس فى مجرد إصدار حكم بالإدانة على مبارك فحسب ، بل فى تقديم ما يضمن لنا أنه لن يعبر احد البحرين بطائرة خاصة ، وخاصة بعدما يصبح مدانا .