شغلت سوريا منذ عامين ونصف العام العالم السياسي والدبلوماسي والعسكري، لكن من الممكن القول إن الأسابيع الثلاثة الماضية، كانت الأكثر ترقبا، حيث عرضت صحيفتي "واشنطن بوست" و"وول ستريت جورنال" تفاصيل عن الأيام التي تلت ضربة الغوطة في ال21 من أغسطس، حتى طرح المبادرة الروسية والتوصل إلى الاتفاق الكيميائي". وقالت الصحيفة إن خطوات بسيطة قد نتجت من اجتماعات المفاوضين الروس والأمريكيين وخبراء السلاح الكيميائي، في جنيف إلا أنها لم تكن كافية، ومن الممكن القول إن الطرفين اتفقا على حجم ومواقع الترسانة السورية، إلا أنهما اختلفا تماما على قضايا أخرى. ولأن الخلافات كانت واسعة، أراد "لافروف" حمل أغراضه والعودة إلى بلاده، ولكن حين اجتمع الطرفان على طاولة الغداء، كان كيري واضحا مع نظيره، وقال له إنه وفريقه مستعدان للبقاء ما يلزم من الوقت، حتى إنه شخصيا مستعد للنقاش طوال الليل، وللاستيقاظ باكرا في اليوم التالي، وقد أمضى رئيس الدبلوماسية الأمريكية بعد ظهر يوم الخميس في جنيف في اجتماعات مع مساعديه ومجموعة من خبراء الأسلحة الذين سافروا معه. وقبل اجتماعهما الأول عصر الخميس، عقد كيري ولافروف مؤتمرا صحفيا، والمفارقة أن وزير الخارجية الأمريكية ألقى خطابا موسعا تحدث فيه عن أهداف الولاياتالمتحدة، فيما اكتفى نظيره الروسي بقول القليل. وخلال تناولهما العشاء معا، خرج المفاوضون الأمريكيون من اجتماع مع نظرائهم الروس، و يروي المسئول الأمريكي "لأننا شعرنا أن الطرفين يتحدثان بعيدا عن بعضهما البعض، كان علينا إيجاد طريقة لإحداث اختراق، فلم يكن من الممكن النجاح إذا أكملنا على الطريق ذاته". وخلال لقاء الدبلوماسيين الروسي والأمريكي مع المبعوث الدولي والعربي "الأخضر الإبراهيمي" صباح يوم الجمعة، ضيق الفريق التقني الاختلافات حول حجم المخزون الكيميائي، وقد اتفق الطرفان على أن يكتب الوفد الأمريكي الإطار العام للاتفاق، في وقت يعمل الخبراء على "إغلاق الثقوب". أما عما حدث في البيت الأبيض، فلم تكن موافقة الكونجرس على شن حرب على سوريا هي معضلة الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" الوحيدة، بل إنه حين قرر اللجوء إلى المشرعين الأمريكيين للحصول على دعمهم، واجه اعتراضات في صفوف فريقه. فمن جهتها، تخوفت مستشارته للأمن القومي "سوزان رايس" من أن يقوض ذلك من صلاحيته كقائد أعلى للقوات المسلحة، أما مستشاره "دان بفايفر" فأشار إلى أن نسبة عدم موافقة الكونجرس تصل إلى 40 في المائة، حتى إن وزير دفاعه "تشاك هايجل" أبدى قلقه، ولكن كما هو معروف، قرر الرئيس الأمريكي "المجازفة"، والسعي للحصول على الدعم الداخلي والخارجي، الأمر الذي لم يحصل بالكامل على الأقل. وبالنتيجة، فإنه في الأيام التي سبقت التوصل إلى اتفاق مع روسيا، عقدت عشرات الاجتماعات مع مسئولين كبار في البيت الأبيض، ووزارة الخارجية، والبنتاجون والكونجرس، ونظرائهم في أوروبا والشرق الأوسط، فقد تحول أوباما من رئيس يريد إخراج أمريكا من دورها ك«شرطي العالم»، إلى رجل يدخلها في حرب مع عدوها الأكبر في سوريا، أي "فلاديمير بوتين". ولكن يبدو أن المبادرة الروسية أنقذت الإدارة الأمريكية، لتكون بديلا من ضربة عسكرية قد تدخل الولاياتالمتحدة في حرب جديدة، ولتنقذ البيت الأبيض من فشل في الكونجرس، فضلا عن أنها حملت روسيا عبء التوصل إلى اتفاق. والمرة الأولى التي بدا فيها أوباما مرحبا بالرد العسكري كانت خلال اجتماع في ال 24 من أغسطس مع مستشاريه للأمن القومي، حيث أبلغهم أنه يميل نحو العمل العسكري. وفي اليوم التالي، تحدث أوباما إلى رئيس الحكومة البريطانية "دايفيد كاميرون"، حيث اتفق الرجلان على تأييدهما للخيار العسكري لردع الرئيس السوري "بشار الأسد"، وليس إسقاطه. ودعا كاميرون السياسيين في بلاده للعودة من عطلتهم الصيفية، ولأنه كان على معرفة تامة بآثار حرب العراق على زميله رئيس الوزراء السابق "طوني بلير"، فضّل العودة إلى البرلمان. وقبل تصويت البرلمان البريطاني، وبضغط من سياسييه، قرر كاميرون تقسيم التصويت إلى جزأين، الأول على مبدأ التدخل، والثاني على تورط بريطانيا مباشرة، ولكن قبل ذلك، كان مستشارو "أوباما" قد توصلوا إلى استنتاج أن المملكة المتحدة، قد تخلت عنهم. وفي مساء يوم الأربعاء في ال28 من أغسطس، اتصل أوباما شخصيا بزعيمة الديمقراطيين في مجلس النواب "نانسي بيلوسي"، التي أبلغت زملاءها لاحقا أنها لم تطلب من الرئيس عرض الموضوع أمام تصويت الكونجرس، وبعد ذلك أغلق البرلمان البريطاني الطريق أمام كاميرون. ومن ثم حل يوم الجمعة في ال30 من أغسطس، وقد بدأت تتصاعد أصوات الكونجرس المرتبكة، وفي اليوم ذاته، ألقى كيري خطابه الشهير الذي دافع فيه عن الخيار العسكري. ولكي يحاول "أوباما" إقناع الكونجرس، قام بالاتصال بصديقه في الكونجرس، السيناتور "ديك دوربين"، وتحدث معه أكثر من نصف ساعة، وقد أقفل السيناتور الخط، وهو فعليا لا يعرف ماذا سيفعل. وفتح كيري الطريق أمام الخروج من المأزق، فخلال مؤتمر صحفي في لندن في التاسع من سبتمبر، قال إن الطريقة الوحيدة لإنقاذ سوريا من الضربة العسكرية، هي التخلي عن السلاح الكيميائي. دقائق قليلة مرت، ليتلقى كيري اتصالا هاتفيا من نظيره الروسي، وبادره الأخير بالقول "أريد أن أحدثك عن مبادرتك، وأجابه كيري بروح من الدعابة "لا أعلم عما تتحدث". وبعد ساعات من اتصال كيري ولافروف، تحركت الدوائر البيروقراطية الأمريكية والروسية، وبدلا من أن يروج أوباما في خطابه في العاشر من سبتمبر للضربة العسكرية، طلب المزيد من الوقت لدراسة العرض الروسي. واحتفل بوتين بفوزه على الأمريكيين في مقال في صحيفة "نيويورك تايمز"، وشعر أوباما خصوصا بعد مقال نظيره الروسي، أنه "إذا كان بوتين يريد وضع مصداقيته على المحك في دعمه للمبادرة، فإنه على البيت الأبيض التأكد من تحميله مسئوليتها".