( الرؤية السياسية .. والبرنامج السياسى .. والمسئولية السياسية .. والانتهازية السياسية ) ( دائماً يطفئ النيران من لم يشعلها ؛ ويبدأ الحروب من لن ينهيها ) قول مأثور أبسط تعاريف العمل السياسى ؛ بأنه أداة لإدارة مصالح الدولة بما تضمه من شعب وأرض وسلطات . ولا ينطلق العمل السياسى لأرض الواقع ؛ إلا من خلال ( رؤية سياسية ) ينتج عنها ( برنامج سياسى ) . وبينما تعنى الرؤية السياسية إدراك الحقائق الكائنة على الأرض ؛ فإن البرنامج السياسى يعنى إنشاء حقائق جديدة على ذات الأرض . وبالتالى ؛ فحيثما تغيب الرؤية السياسية نتيجة عدم القدرة على أو الرغبة في إدراك الحقائق , فإن البرنامج السياسى يصبح نبتاً شيطانياً مفارقاً للواقع ومعاكساً للمستقبل . أيضاً ؛ فإنه كلما لم يتفاعل البرنامج السياسى مع المصلحة الوطنية في ظل المراحل التاريخية الدقيقة ؛ فإنه يفتقر إلى المسئولية السياسية ويسقط في خطيئة الانتهازية السياسية . وتعنى ( المسئولية السياسية ) القدرة على تعطيل أو تفعيل البرنامج السياسى بما يلبى المصالح الوطنية في فترة تاريخية معينة . بينما تعنى ( الانتهازية السياسية ) القدرة على تعطيل أو تفعيل البرنامج السياسى بما يلبى المصالح الحزبية أو الأيدلوجية الضيقة . وتحتاج مصر في عهد الثورة إلى التمسك بفضيلة المسئولية السياسية ؛ ونبذ رذيلة الانتهازية السياسية . ولكن يبدو أن طول عقود الاستبداد والفساد منذ يوليو 1952م وحتى نهاية حكم مبارك ؛ قد أدت إلى تشويه القدرة على تكوين رؤى سياسية سليمة تفضى إلى برامج سياسية واقعية ؛ ومن ثم تصبح الانتهازية السياسية هى العنصر الحاكم في ظل بيئة سياسية تم إفسادها حتى النخاع ؛ بحيث يمكن وصف المشهد المصرى برمته بأنه مشهد ( لاسياسى ) ؛ لأنه يفتقر إلى الرؤية السياسية والبرنامج السياسى والمسئولية السياسية . المشهد اللاسياسى المصرى ؛ يتصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة بقراراته وممارساته التى تتناقض مع الشرعية الثورية . ولعل التعديلات الدستورية الأخيرة التى تم الاستفتاء عليها ؛ لكى يتم تضمينها داخل إعلان دستورى من المرتقب صدوره خلال الأيام القادمة ؛ لكى يصبح بديلاً عن دستور 71؛ لعل تلك التعديلات توضح مدى لاسياسية قرارات المجلس العسكرى . وتفرض سؤالاً يطرح نفسه بقوة يتمثل في الآتى : لماذا إذن تم استفتاء المواطنين على تعديلات دستورية رغم النية المبيتة لوضع إعلان دستورى يحل محل دستور 71 ؟ ما الهدف إذن من تلك التعديلات طالما أن الإعلان الدستورى المرتقب سيتكفل بإلغاء دستور 71 بكل مواده ؟؟ ولعل الإجابة الخبيثة التى يمكن أن تكون حاضرة في هذا المجال هى : أن الهدف من الاستفتاء على التعديلات الدستورية ؛ كان يتمحور حول غاية واحدة فقط هى : شق صفوف جماهير الثورة ؛ وتقسيمها إلى فسطاطين . ولعل المتتبع لتشكيل لجنة التعديلات الدستورية برئيسها المستشار طارق البشرى ذو التوجهات الفكرية المتأسلمة ؛ وعضوية أحد قيادات الإخوان المسلمين بها ( صبحى صالح ) ؛ لعل المتتبع لذلك سيتيقن بأن الهدف من تطعيم اللجنة بعناصر متأسلمة فكرياً ؛ ما كان إلا لدفع كافة التيارات المتأسلمة للاصطفاف خلف تلك التعديلات ؛ وترك الحبل لها على الغارب لكى تلعب دينياً بعقول البسطاء في الشارع لكى يصطفوا هم أيضا خلف تلك التعديلات ؛ ومن ثم يتم شق الصف ؛ والهبوط بالزخم الثورى إلى الحضيض ؛ بدعوى الرغبة في عودة الاستقرار وعودة الأمن والأمان . نحن إذن أمام تكريس لممارسات الانتهازية السياسية يقودها المجلس العسكرى ويعاونه فيها التيار المتأسلم ؛ وهى لعبة بالغة الخطورة تعيد إلى الأذهان الخطأ الفادح الذي ارتكبه الرئيس الراحل أنور السادات ؛ عندما استعان بالتيار المتأسلم لضرب التيار اليسارى ؛ فكانت النتيجة هى اغتياله على يد من فتح لهم الباب للعمل السياسى . والواقع أن التيار المتأسلم لم يتهاون في اقتناص الفرصة السانحة ؛ فانتشر في الشوارع يوزع عطاياه التموينية وملصقاته الحائطية ولافتاته القماشية التى تروج للتعديلات ؛ باعتبارها الطريق لعودة الاستقرار والحاجز الذي يمنع إقصاء المادة الثانية من الدستور . وكأن المادة الثانية من الدستور هى التى جعلتنا مسلمين ؛ بينما كنا من قبلها ندين بديانة أخرى . وهكذا فتح المجلس العسكرى الباب لممارسات الانتهازية السياسية ؛ التى تساهم في استمرار المشهد اللاسياسى الذي ورثته مصر من نظام مبارك وما قبله . لكن المشهد اللاسياسى يمتد لكى يطال ممارسات مجلس الوزراء المصرى ؛ الذي أعلن رئيسه في ميدان التحرير أنه يستمد شرعيته من كل ميادين الجمهورية ؛ وإذا بمجمل ممارساته تخلو من الرؤية السياسية والبرنامج السياسى والمسئولية السياسية . والواقع أن الصفات الإنسانية والأخلاقية العالية التى يتمتع بها الدكتور عصام شرف ؛ قد تؤهله لكى يكون مواطناً مثالياً ؛ ولكنها لا تؤهله بالضرورة لكى يكون سياسياً ناجحاً ؛ فضلاً عن أن يكون سياسياً ثورياً . وللأسف ؛ فإن الواقع بدأ يثبت ؛ أن الدكتور عصام شرف لا يمتلك رؤية سياسية ولا يمتلك إرادة ثورية تجعله يراجع المجلس العسكرى في قراراته وممارساته اللاسياسية التى شقت صفوف الثورة . بل إن العكس بدأ يطفو على سطح الواقع ؛ من خلال مشروع القانون سئ السمعة الذي أرسله مجلس الوزراء إلى المجلس العسكرى لإقراره ؛ بشأن تجريم التظاهرات والاعتصامات التى تؤدى إلى تعطيل العمل والإنتاج . وبالتالى ؛ بدلاً من أن يمارس رئيس الوزراء ونائبه يحيى الجمل ووزراؤه صلاحياتهم لتطهير مؤسسات الدولة من الفاسدين الموالين للنظام السابق ؛ ومن ثم يتم فتح طاقة أمل للمضربين والمعتصمين فتهدأ خواطرهم وتبرد مطالبهم الفئوية التى طال إهدارها ؛ فإذا بمجلس الوزراء يواجه النتيجة وليس السبب الذي أدى إليها . نحن إذن أمام ممارسات لاسياسية تفتقر إلى الإرادة الثورية وتطعن الزخم الثورى في مقتل . وبالطبع ؛ فإن المشهد اللاسياسى يمتد ليضم الائتلافات التى نشأت مع الثورة ويضم الأحزاب السياسية . والواقع أن الأداء اللاسياسى لائتلافات شباب الثورة وللأحزاب السياسية ؛ هو الذي أتاح الفرصة للمجلس العسكرى لكى ينفرد بقيادة البلاد خلال الفترة الانتقالية . فعدم قدرة هذه الائتلافات والأحزاب على التحالف مع بعضها البعض ؛ لتشكيل مجلس رئاسى مدنى انتقالى يشترك مع المجلس العسكرى في القيادة ؛ فتح الباب لنقل كل قوى الثورة من موضع الفعل إلى موضع رد الفعل . مما جعل الاستجابة لمطالب الثورة تتم وفقاً لجرعات صغيرة ؛ بدءً من التشكيل البائس لمجلس الوزراء الذي استمر يضم وزراء من العهد البائد مثل ( سيد مشعل ) , ومروراً بعدم التعاطى بجدية مع مطلب حل الحزب الوطنى ؛ والالتفاف على مطلب إلغاء قطاع أمن الدولة من خلال استمرار بقاءه ولكن تحت اسم جديد ؛ وعدم تقليص قوات الأمن المركزى التى تمثل العصا الغليظة للنظام السابق ؛ وصولاً إلى عدم المساس بكل قيادات الحرس القديم أمثال زكريا عزمى وصفوت الشريف وفتحى سرور ؛ والاكتفاء بإحالة بعض قيادات الداخلية لمحاكمات مدنية رغم ما ينص عليه قانون الشرطة من ضرورة محاكمتهم أمام محاكم عسكرية نفاذاً لنص المادة 99 من قانون الشرطة التى تنص على الآتى : ( يخضع الضباط بالنسبة إلى الأعمال المتعلقة بقيادة قوة نظامية لقانون الأحكام العسكرية ) ؛ ونظراً لأن قوات الأمن المركزى هى قوات نظامية ؛ فإن كل من أصدر لها تعليمات ينبغى أن يخضع لقانون الأحكام العسكرية ؛ بحيث تتم إحالته للنيابة العسكرية الشرطية والمحاكم العسكرية الشرطية . المشهد اللاسياسى- وللأسف – يضرب بسلبياته كل أركان الثورة ويجهض منطلقاتها ؛ بما قد يؤدى إلى سقوط ثمرة الثورة في قبضة قوى فاشية ظلامية أو قيادة عسكرية تستعد لارتداء الزى المدنى . والسبب في كل ذلك ؛ أن الرؤية السياسية تغيب عن معظم المنتمين لقوى الثورة ؛ وإذا حضرت تلك الرؤية لدى البعض – وهم القلة – فإنها تفرز برنامجاً سياسياً يفتقر إلى المسئولية السياسية ويعتنق الانتهازية السياسية . المشهد اللاسياسى يحتاج إلى الحقن في النخاع بجرعات متكررة من المسئولية السياسية ؛ التى قد تحيله مع الوقت إلى مشهد سياسى يتناسب مع جلال الثورة . لذلك ينبغى على ائتلافات الثورة أن تدرك بأن الجلوس مع المجلس العسكرى لا طائل منه ؛ إلا بعد الجلوس مع باقى القوى السياسية المدنية لتكوين تكتل للأحزاب والقوى المدنية يمكنه مواجهة التيارات المتأسلمة ؛ التى فتحت مغازلة المجلس العسكرى لها – وفتحت نتيجة الاستفتاء – شهيتها إلى السلطة . تكوين تكتل للقوى والأحزاب المدنية ؛ هو عمل ( سياسى ) يضرب المشهد ( اللاسياسى ) في مقتل ؛ لأنه سيؤسس لتكتل يخوض الانتخابات التشريعية القادمة تحت راية مدنية واحدة لا تفرقها الأيدلوجيات الحزبية الضيقة ؛ بما يتيح القدرة على مواجهة القوى المتأسلمة التى تحاول استغلال ضعف الوعى السياسى لدى الشارع . تكوين تكتل للقوى والأحزاب المدنية ؛ هو عمل سياسى ينبغى أن يسفر عن مطالبات متشددة ؛ بضرورة وضع قوانين صارمة لمنع الدعاية الدينية والرشاوى الانتخابية . بحيث يتم حل الحزب أو شطب المرشح الذي يتورط في أى من تلك الممارسات التى يمكن توصيفها بأنها نوع من التزوير المعنوى الذي يجاوز في أثره التزوير المادى . تكوين تكتل للقوى والأحزاب المدنية ؛ هو عمل سياسى قد يطرح بقوة عدد كبير من التساؤلات التى لا يجيب عنها المجلس العسكرى ؛ والتى قد يتمثل بعضها في الآتى : - لماذا يصر المجلس العسكرى على الانفراد بالسلطة خلال الفترة الانتقالية ؛ دون إشراك باقى القوى السياسية – ولو بالتعاقب – في إدارة الدولة خلال تلك الفترة ؟ - هل سيحافظ المجلس العسكرى في إعلانه الدستورى على استمرار نسبة ال 50 % عمال وفلاحين بالمجالس التشريعية ؟ وإن أبقى عليها فإننا نسأله .. لماذا .. ؟؟ - إذا كانت الانتخابات التشريعية ستتم – كما يُشاع – خلال شهر سبتمبر القادم ؛ بينما ستتم الانتخابات الرئاسية خلال شهر ديسمبر ؛ فلماذا لم يتم حشد الجهود لوضع دستور جديد ؛ بدلاً من التعديلات الدستورية البائسة التى شقت صف الجماهير ؟؟ - لماذا يتناسى المجلس العسكرى دروس التاريخ ؛ ويخاطر كما خاطر الرئيس الراحل السادات ؛ بالرقص مع الذئاب ؟!!! .. كثيرة هى التساؤلات التى تظل معلقة في سماء المشهد اللاسياسى المصرى وتنتظر الإجابات الشافية . ولكن ربما تكون الثورة علمتنا ؛ بأن بعض الأسئلة ينبغى ألا ننتظر الإجابة عليها من الآخرين ؛ بل ينبغى علينا أن نجيب عليها بأنفسنا . لأنه دائماً ؛ يطفئ النيران من لم يشعلها ؛ ويبدأ الحروب من لن ينهيها !!! ***** دكتور / محمد محفوظ [email protected] ت : 0127508604